بقلم الكاتب الصحافي عبدالله العبادي
المختص في الشؤون العربية والإفريقية
لن تتحول الأفكار مهما كانت صحيحة إلى حقيقة واقعية، إن لم يمتلكها الناس بشكل جدي وواع، وبالتالي جميع الاقتراحات والمبادرات المقدمة لإصلاح الأحزاب السياسية، تحتاج إلى اقتناع قيادات وأعضاء الأحزاب بها، وإلى إرادة صادقة لتنفيذها من أجل تجاوز الأزمات السياسية اليوم والتحضير لانتخابات استثنائية تستجيب للمرحلة السياسية التي نعيشها.
أجدني مضطرًا للعودة مجددًا إلى تسليط الضوء على الكيفية التي تم بها اختراق الأحزاب السياسية من طرف المسترزقين، وكيف تحولت من فضاءات نضالية تحمل مشروعًا وطنيا، إلى احزاب إقطاعية قائمة على الريع واستغلال النفوذ.
إن دراسة التجارب التاريخية والاستفادة منها يساعد كثيراً في تجنب الكوارث وفي تحليل أدق للحالة المزرية التي تعيشها معظم الأحزاب السياسي. يمكن ملاحظة أن بعض الأحزاب قد تحولت إلى أدوات للتحكم في الوعي الجمعي، فهي تساهم في صناعة الوهم من خلال ترويج أفكار سطحية انتخابية، تعزز التسطيح الفكري بتقديم حلول ترقيعية لمشاكل معقدة، وتعمل على ترسيخ عقلية القطيع التي تفرض رأي أغلبية مسطحة على حساب التفكير النقدي.
لقد أفرغت هذه الأحزاب من بعدها الوطني الحقيقي، وطردت النخب الفاعلة وأرغمت البعض الآخر على الرحيل، وهمّشت الكفاءات التاريخية للأحزاب. فصارت تنتج الزبونية والانتهازية والريع وعقليات القطيع، لا فكر ولا سياسة و لا إنتاج و لا حلول ولا مبادئ، أي تعمل نقيض الدور الحقيقي المنوط بها.
وكما أن أي عمل مسؤول يحتاج إلى قدوة ومثال، يفترض أن تكون القيادة مؤهلة للقيام بهذه المسؤولية، لتكون مثالاً للآخرين، لتخلق بسلوكها هذا أجواء نقية وصحية لبناء تنظيم سياسي معافى. ويصبح قدوة ومثالاً للقادة السياسيين في الوطن بشكل عام ويقدم درساً بليغاً للجميع بضرورة التنحي عند الفشل في أداء البرامج والمهام التي يتولاها.
كان هيغل مصيباً في فهمه لدور الشخصيات التاريخية ، عندما بين أنّ المسألة تكمن في حقيقة أنها بعدما تؤدي رسالتها “تسقط كما تسقط قشرة حبة القمح”، إلا أن نظرية هيغل لم تتحقق في وطننا العربي، فالسياسي لا يغادر كرسيه سواء نجح او فشل في مهامه.
فجل الأحزاب لا تنتج اليوم أطرًا سياسية فاعلة، بل باتت تفرخ أطرًا ريعية تنتمي إلى مجموعات مغلقة. هذه المجموعات لا تنخرط في المعادلة السياسية من موقع وعي أو مشروع وطني مشترك، بل من موقع المصالح الحزبية الضيقة.
نفتقر اليوم لقيادات حقيقية ورجال دولة حقيقيين لقيادة الأحزاب السياسية أمثال الراحل السي عبدالرحمن اليوسفي، قد يكون في نظري من المجحف الحديث عن سيرة الراحل، في مقال، سيكون من الصعب الحديث عن محطات حياته الحافلة بالعبر والتجربة السياسية التي راكما طيلة حياته.
ما قدمه السي اليوسفي للمغرب، التاريخ وحده سينصفه، باعتباره أيقونة للعمل السياسي الشريف والنبيل في تاريخ الأحزاب السياسية. الرجل رغم قلة كلامه وخطاباته، لكنه كان ذا ممارسة سياسية راقية، لم نسمع أنه سب خصمه السياسي أو نعته بنعوت سيئة. لم نسمع عنه أنه خون أحدا أو نزع الوطنية عن أحد، كل المغاربة عنده سواسية سواء الخصم أو الزميل.
السي اليوسفي مارس سلوكا سياسيا متخلقا، وحافظ على نظافة اليد، تنازل عن تعويضاته ولم يجري وراء امتلاك الأراضي أو رخص استغلال ولا سيارات الدولة أو تقاعد مريح، لم نسمع عنه أنه تاجر بالسياسة أو امتهن المجال السياسي من أجل المناصب.
المحامي الذي دافع على شهداء صبرا وشاتيلا في لاهاي، عاش مناضلا ومات شريفا، كان منظومة قيم ومبادئ لم تعد موجودة، تمثلت في حب الوطن ونكران الذات، ناقش دوما الأفكار ولم يناقش الّأشخاص.
مات السي عبدالرحمن اليوسفي ومات معه اليسار واليمين والوسط، ترك السياسة يتيمة، فامتهنها باعة الأوطان وشرذمة من الانتهازيين، ما أحوجنا لشباب يمشي على خطاه ليكون الوطن فوق كل حسابات سياسية.