عصر الردع الخاطف: تحول في أدوات القوة.. «ضربات بلا حرب.. وردع بلا سلام»

admin2 يوليو 2025آخر تحديث :
لهيب عبدالخالق

لهيب عبدالخالق

في الثالث عشر من يونيو 2025، اندلعت الحرب القصيرة التي عُرفت لاحقًا بـ”حرب الأيام الاثني عشر” بين إسرائيل وإيران، إثر هجوم جوي إسرائيلي مكثف طال عشرات الأهداف الإيرانية، شملت منشآت عسكرية، ومراكز أبحاث نووية، ومقرات لقيادات بارزة في الحرس الثوري. العملية التي حملت طابعًا استباقيًا من حيث التخطيط والتنفيذ، كانت تهدف إلى إيقاف مسار إيران التصاعدي في برنامجَيها النووي والصاروخي. وقد تبنّت إسرائيل سردية الدفاع المسبق ضد تهديد وجودي، لكن أبعاد الضربة كانت أوسع من مجرّد تحجيم القدرة الإيرانية، إذ انطوت على رسائل جيوبوليتيكية واستراتيجية معقدة طالت طهران كما طالت أطرافًا أخرى إقليمية ودولية.
ردّت إيران بإطلاق صواريخ باليستية استهدفت عدة مدن إسرائيلية، لكنها رغم ذلك لم تُحدث خرقًا جوهريًا في ميزان القوة أو الردع، واكتفت بإظهار رمزية القدرة على الرد. وبدا التفوق الإسرائيلي واضحًا، سواء في دقة الضربات أو في القدرة على تحييد منظومات الدفاع الإيرانية. لكن اللحظة الفارقة جاءت حين تدخّلت الولايات المتحدة بشكل مباشر، عبر ضربة غير مسبوقة استهدفت ثلاثة من أهم المفاعلات النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، باستخدام قاذفات B2 و14 قنبلة خارقة للتحصينات من طراز “أم القنابل جي بي يو-43/بي”. هذا التصعيد الأميركي حمل دلالات استراتيجية كبرى:
• أولها أن واشنطن، في عهد الرئيس الأمريكي العائد دونالد ترامب، ما زالت تحتفظ لنفسها بدور المقرِّر النهائي في توازنات الشرق الأوسط.
• وثانيها أن خيار استخدام القوة لا يزال مطروحًا وبقوة حين يتعلق الأمر بالملف النووي الإيراني.
وعلى الرغم من التفوق الهجومي الإسرائيلي، كشفت المواجهة عن محدودية المنظومة الدفاعية الإسرائيلية في صدّ الصواريخ الإيرانية، رغم تفعيل أنظمة متطورة شملت “القبة الحديدية” لاعتراض الصواريخ القصيرة، و”مقلاع داوود” للصواريخ المتوسطة، و”سهم-2″ و”سهم-3″ للتصدي للتهديدات الباليستية، إلى جانب دعم تكتيكي من أنظمة “باتريوت” الأميركية في نقاط محددة. ورغم هذا الانتشار الدفاعي متعدد الطبقات، نجحت بعض الصواريخ الإيرانية في اختراق تلك الحواجز والوصول إلى العمق الإسرائيلي، ما كشف عن ثغرات في بنية الردع الصاروخي، وأبرز توازنًا هشًّا بين القدرة على الهجوم والضعف في الدفاع، حتى في ظل امتلاك تقنيات متقدمة وتحالفات أمنية واسعة.”
ورغم جسامة الخسائر التي لحقت بالبنية التحتية النووية، جاء الرد الإيراني محدودًا وموجهًا نحو قاعدة العديد في قطر، في ما اعتُبر إجراءً رمزياً لحفظ ماء الوجه دون الدخول في مواجهة شاملة. وعلى إثر هذا الرد المحدود، أعلن ترامب وقف العمليات، مانحًا نفسه صورة القائد الذي يُشعل النار ويطفئها في اللحظة الحاسمة. هذه اللحظة تحديدًا فتحت الباب لقراءة مركّبة للحرب: لم تكن اشتباكًا عسكريًا قصيرًا بقدر ما كانت تمرينًا تكتيكيًا على استعراض أوراق الردع الجديدة، ورسالة مركبة لإيران والمنطقة بأن أي استئناف لمشروع التخصيب لن يُقابل هذه المرة بالصمت أو الاكتفاء بالعقوبات.
من الناحية العسكرية، نفّذت إسرائيل ضرباتها بناءً على استخبارات دقيقة وتسليح دقيق، وأظهرت طهران هشاشة نسبية في الدفاع الجوي والتنسيق القيادي، ما عزّز فرضية اختراق بنيوي في عمق المؤسسات السيادية الإيرانية. أما التدخل الأميركي فقد مثّل “لحظة حسم” عسكرية، تم فيها استخدام القوة القصوى دون المرور بتصعيد تدريجي، لتأكيد أن الخطوط الحمراء ليست وهمية كما اعتُقد سابقًا. ومع أن الضربات الأميركية عطّلت البرنامج النووي الإيراني، إلا أن تقارير متعددة قدّرت أن إيران ستتمكن من تعويض بعض الخسائر خلال عام إلى ثلاثة أعوام، ما يعني أن الضربة لم تُنهِ البرنامج، لكنها أخّرته وأضعفته وأرغمته على إعادة التموضع.
على الصعيد الجيوسياسي، تعززت صورة إسرائيل كفاعل إقليمي قادر على المبادرة، لا مجرد ردّ الفعل، بينما بدت إيران في موقع الدفاع، مكشوفة أمام التفوق التكنولوجي والاستخباراتي الإسرائيلي – الأميركي. وتابعت دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، الموقف بترقّب، لكنها رأت فيه فرصة لإعادة رسم التوازنات بما يتماشى مع طموحاتها في احتواء إيران من جهة، وربما فرض رؤيتها لمفهوم “الأمن العربي النووي” من جهة أخرى. أما أوروبا، فقد بدت مربكة، مهمّشة في المشهد، غير قادرة على أداء دور الوسيط أو الحَكم، خصوصًا بعد أن تجاوزتها الوقائع الميدانية، وأُغلقت أمامها فجأة نوافذ التهدئة التي كانت تروّج لها عبر قنوات دبلوماسية منهكة.
في عمق هذا المشهد، ظهرت ديناميات جديدة ستُعيد تشكيل مسارات التفاوض والسياسة. فإيران لم تفقد مشروعها النووي، لكنها فقدت القدرة على التلويح به كورقة قوة خالصة، وأثبتت إسرائيل أن الضربات الاستباقية قادرة على تغيير المعادلات. والولايات المتحدة أرسلت إشارات واضحة بأنها لم تخرج من اللعبة، بل استعادت دورها القيادي في وقت كانت فيه التقديرات تتجه نحو تراجع هذا الدور. بذلك، تبدو طاولة المفاوضات المقبلة محمّلة بأوراق جديدة غير تقليدية، وتتضمن توازنات مختلفة عن تلك التي عرفناها خلال مفاوضات الاتفاق النووي في 2015 أو محادثات فيينا لاحقًا.
ومن المرجّح أن تشمل المفاوضات المقبلة مطالب إيرانية واضحة، في مقدمتها رفع العقوبات الاقتصادية مقابل تجميد مؤقت للأنشطة النووية الحساسة، إلى جانب تقديم ضمانات دولية بعدم تكرار سيناريو الضربات العسكرية المفاجئة. في المقابل، تسعى إسرائيل والولايات المتحدة إلى فرض رقابة صارمة، ومنع أي تخصيب لليورانيوم يتجاوز 20 أو حتى 60%، مع اشتراط دخول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشكل دائم وموسع، وربما تقليم أظافر أذرعها في المنطقة. أما أوروبا، فتبدو عاجزة عن اتخاذ موقف موحّد، فهي عالقة بين دور الوسيط التقني من جهة، ومحاولتها الحفاظ على نوع من التوازن بين مصالحها الاقتصادية ومبادئها السياسية من جهة أخرى. لذلك، من غير المستبعد أن نكون أمام حل مبتور: نظام يسمح لإيران بتخصيب مدني تحت رقابة مشددة، مقابل رفع جزئي للعقوبات، وعودة تدريجية إلى السوق الدولية ضمن حدود محسوبة.
لكن المستقبل لا يُرسم على الورق وحده، فالسيناريوهات المحتملة لما بعد الحرب تتراوح بين “محرقة صواريخ” تتكرّر فيها الضربات على شكل مواجهات محدودة ومنفصلة بلا إعلان حرب شاملة – ما يشبه حروب التجزئة – وبين “تعمية نووية” تنقل فيها إيران أنشطتها إلى منشآت غير قابلة للرصد، مع توظيف الألمان والروس كوسطاء تقنيين لخلق مظلة شرعية رمادية. أما السيناريو الثالث، فهو قيام دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، باستثمار هذه اللحظة لإطلاق مبادرة “عرب نوويون” تفرض على طهران نوعًا من التوازن غير المسبوق، عبر تحالفات مع واشنطن وشبكات إقليمية ذات طابع أمني وتقني.
ورغم إعلان ترامب عند وقف العمليات أن “الآن حان وقت السلام”، فإن الواقع الميداني يُكذّب هذا الطموح الخطابي. ما حدث لم يكن سلامًا فعليًا، بل وقف إطلاق نار مفروض من طرف واحد ضمن شروطه، ودون تفاهم متبادل أو تسوية شاملة. لقد تحقق الردع باستخدام القنابل لا بالاتفاق، مما يجعل من “السلام” مجرد واجهة مؤقتة لهيمنة القوة. فالمشروع النووي الإيراني لم يُجفف جذريًا، والمفاوضات لم تبدأ بعد، والثقة بين الأطراف لا تزال معدومة. بهذا المعنى، ما نعيشه هو حالة من “سلام الخوف”، لا “سلام المصالح”، توازن هش قابل للاهتزاز عند أول شرارة، لا استقرار طويل الأمد.
ما جرى في هذه الحرب القصيرة يفتح أفقًا جديدًا في فهم طبيعة الحروب والردع في القرن الحادي والعشرين. إذ لم تعد الحروب تقتصر على المواجهات الشاملة، بل باتت تتخذ شكلًا من “ردع الحرب الخاطفة” أو “الحرب الهجينة المركّزة”؛ حيث تُستخدم ضربات موجعة ومحددة لإحداث تغيير استراتيجي سريع، مع التحكم الدقيق في وتيرة التصعيد، ما يسمح بفرض التفاوض من موقع قوة هش لكنه فعّال. هذا النموذج يعكس تحوّلًا في أدوات الصراع، ويضعنا أمام واقع جديد في إدارة النزاعات والتوازنات الدولية.
الحرب التي استغرقت اثني عشر يوماً لم تكن مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل لحظة فاصلة كشفت تحوّلات عميقة في بنية النظام الإقليمي. لقد أظهرت مدى تغير قواعد الاشتباك، بفضل أدوات الحرب الهجينة والتقنية المتقدمة، وكشفت في الآن ذاته هشاشة مفاهيم الردع النووي، بعدما باتت الأسلحة دون النووية أكثر تأثيرًا في فرض الإرادة السياسية. كما أرست هذه الحرب أسس معادلة تفاوض جديدة لا تعتمد على توازنات القوى فقط، بل على قدرة كل طرف في استخدام العنف المحدود لأغراض استراتيجية محددة. وإذا نجحت الأطراف في تحويل القسر العسكري إلى بنية تفاوضية تكاملية، فقد نشهد انطلاق مرحلة جديدة من “الردع المتبادل المُدار”، تتقلص فيها الرؤية الثنائية التقليدية، وتُفتح فيها نوافذ لاستقرار مختلط، يحكمه توازن رقابي دولي صارم، وبرامج تخصيب مدني مقوننة، وضمانات أوروبية وآسيوية تُعيد صياغة الأمن الإقليمي خارج منطق الحرب.
كاتبة عراقية مقيمة في كندا.

الاخبار العاجلة