الدكتور محمد العرب يكتب.. بلوك تشين والعملات الرقمية المشفرة بين الحاضر والمستقبل!
تخيل أن تنجز معاملاتك المالية من دون بنوك، وبلا طوابير انتظار طويلة، ولا رسوم تحويل، بل حتى بدون عملة نقدية تحملها في جيبك!
تخيل أن تنجز معاملاتك المالية من دون بنوك، وبلا طوابير انتظار طويلة، ولا رسوم تحويل، بل حتى بدون عملة نقدية تحملها في جيبك!
إذا أراد زيد إرسال مبلغ من المال إلي أخيه الذي يدرس بالخارج، فعليه إيداع المبلغ أولاً في البنك، الذي يقوم بدور الوسيط المسؤول عن تسليم المبلغ المحدد إلى شقيق زيد. هذه العملية في العادة لا تتم بدون هذا “الوسيط المركزي” أي المصرف، مقابل عمولة تحويل.
ولكن ماذا لو اختفى هذا الوسيط، وتمت هذه المعاملة بشكل مباشر وبدون عمولة تقريباً؟!
هذا ما يحدث بالضبط في حالة التعامل بالبيتكوين، العملة الافتراضية التي قلبت عالم الاقتصاد رأسا على عقب، بالإضافة إلى أنها تضمن حماية بيانات المستخدمين بشكل فائق، ولا تشترط معرفة هويتهم الشخصية. وبالتالي.. نحن نراقب العملية، ونعرف تفاصيلها كاملةً، لكن لا نتعرف على هوية العملاء.
كل هذا يتم من خلال البلوك تشين، ولكن كيف تعمل هذه التقنية؟ وما هي الضمانات التي تقدمها للمستخدمين؟ وما مستقبل هذه التقنية؟ وما مصير العملات الرقمية المشفرة؟
في أعماق بلوك تشين..والعملات الرقمية المشفرة!
تشبه بلوك تشين دفاتر حسابات عمومية مفتوحة ومتاحة للجميع وموزعة إليكترونيًا على ملايين الأجهزة حول العالم. يمكن لكل مستخدم من أصحاب هذه الدفاتر معرفة أن معاملة مالية ما؛ قد وقعت فور حدوثها وتسجيلها فى هذه الدفاتر على هيئة كتل.
تحمل كل كتلة منها بيانات المعاملة: كاسم المتعاملين، وقيمة المبلغ، وتوقيت العملية، والبصمة الإلكترونية للمعاملة. إحدى الميزات الهامة في هذه العملية هي لامركزيتها بعيدا عن رقابة طرف ثالث، كالمصارف في حالة التعاملات المالية. وفي حالة العملات الرقمية المشفرة، فإن الكتل التي تحمل بيانات المعاملات المالية ليست منفصلة، ولكنها ترتبط معًا داخل سلسلة الكتل الخاصة بكل المعاملات التى حدثت على هذا النظام منذ بدايته.
كيف بدأت القصة؟
في العام 2009، تراجعت الثقة بالبنوك المركزية والمعاملات المالية التقليدية بعد الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام 2008؛ خرجت على إثرها فكرة الـ block chain كنظام للتعاملات المالية الحرة، المسجلة، الفورية، والآمنة يعتمد على العملات المشفرة Cryptocurrencies بعد نشر ورقة بحثية على الانترنت لـNakamoto وهو اسم لشخص يُعتقد أنه ياباني أو لمجموعة أشخاص مجهولى الهوية غرسوا البذرة الأولى لهذه التقنية.
إذا بلوك تشين هي سلسلة من الكتل المترابطة التي تسجل آلاف المعاملات المالية والبيانات الرقمية يومياً.. ولكن ما الذي يضمن قوة هذه السلسلة، أي سرية وأمان المستخدمين؟
في الواقع، مع مرور كل 10 دقائق تتكون كتلة تحمل بيانات المعاملات المالية التى تمت، وتشفر ببصمة إلكترونية خاصة بها تُسمى hash، ثم تنغلق تمامًا بحيث لا يمكن التعديل بها على الإطلاق.
وبعد مرور 10 دقائق أخرى تتكون كتلة جديدة بتفاصيل المعاملات الجديدة وبصمة جديدة، تضاف لبصمة الكتلة التي سبقتها. وهكذا دواليك، حتى تتشكل سلسلة من المعاملات تجعل الأمر أكثر تعقيدًا وأمانًا بحيث يستحيل اختراقها أو تزويرها. يمكن تشبيه العملية برمّتها بالحياكة، حيث تُصنع كل غرزة استنادًا على ما يسبقها من غرز حتى يخرج فى النهاية نسيج مُحكم ومترابط.
كيف أحصل على عملة رقمية مشفرة؟!
إحدى وسائل الحصول على العملات الرقمية هي التنقيب Mining ، ولكنك لن تحتاج هنا إلى فأس، بل إلى جهاز حاسوب بمواصفات خاصة وقدرات عالية وطاقة كهربية هائلة؛ لتبدأ عملية التنقيب.
والتنقيب عن العملات الرقمية المشفرة يعني حل معادلات حسابية شديدة التعقيد يطورها مبرمجون ويقومون بتحديثها، وكلما استطاع جهازك حل إحدى المعادلات تحصل على نسبة من العملة الرقمية، وهكذا يصير لديك رصيد كاف داخل محفظتك الرقمية التي يمكنك إنشاؤها على أحد المواقع الالكترونية أو تطبيقات الهاتف في أيامنا هذه.
هذا الرصيد يتراكم بقيمة من عملة افتراضية مشفرة أشهرها الـ”Bitcoin” وأحدثها “Libra ” أو “Diem ” التي يعتزم “فيسبوك” إطلاقها في المستقبل القريب.
هناك طرق أخرى أسهل للحصول على “البتكوين” من دون “تنقيب”، كأن تقوم بشراء وحدات من العملة الرقمية من منصة مخصصة لذلك، أو أن تقوم بعرض منتجات أو خدمات على موقع خاص بك وتحديد طريقة تقاضي مقابل هذه الخدمات بعملة “بيتكوين” على سبيل المثال.
لقد صار التعامل بالعملات الرقمية أمرًا مألوفا في الكثير من دول العالم، حتى أنه صار هناك آلات ATM لاشهر العملات الرقمية في دول كالولايات المتحدة وكندا والصين واليابان.
حجم سوق العملات الرقمية المشفرة
يبلغ عدد العملات الرقمية المشفرة حاليا نحو 11425 عملة. أما القيمة السوقية لهذه العملات فتتجاوز 2 تريليون دولار. وهنا نسأل: ما الذي يضمن قيمة العملة الرقمية؟ وعلى أي أساس يحدد سعر “بيتكوين” مثلاً؟
“العرض والطلب” مبدأ اقتصادي أزلي.
ولكن في حالة العملات الرقمية هناك عامل آخر مهم. باعتبار “البيتكوين” العملة الرقمية الأشهر، فإن هناك عدداً محددً للوحدات التي يجري تداولها في العالم. يعني لدينا حجم محدد من “بيتكوين” يبلغ 21 مليون وحدة فقط، ولا يمكن إنتاج عدد أكبر من ذلك.
هذا أحد أسباب ارتفاع قيمة “بيتكوين” مقارنة مع باقي العملات.
يعني إذا ما امتلكت “بيتكوين” واحدة، فأنت تمتلك 1 على 21 مليون من ثروة العالم بهذه العملة، حتى العام 2140؛ تاريخ توقف إنتاج “بيتكوين”.
وبما ان الطلب العالمي في ازدياد على “بيتكوين”، فإن قيمتها تزداد منذ اطلاقها رسميا في العام 2009. العرض والطلب يفسر أيضاً التقلبات في أسعار كل العملات الرقمية المشفرة. عامل آخر مؤثر في قوة العملة الرقمية المشفرّة هو ارتباطها بالقطاع او الخدمة او المشروع.
أي أن عملة “فايسبوك” مثلا تستمد قوتها من حجم مستخدمي المنصة الزرقاء والخدمات التي سيكون بمقدورهم شرائها لقاء العملة المرتقبة.
نحنا اذا أمام عملات مشفرة قائمة على تقنية “بلوك تشين” وبسمات رائدة:
– تحويلات شبه مجانية.
– لا مركزية.
– خصوصية
– آمنة.
– سريعة.
– قابلة للاستبدال.
مخاطر وتهديدات..وآفاق!
هل نحن إذا أمام تقنية مثالية بلا عيوب؟ الجواب هو لا.
ككل أنواع التكنولوجيا، فإن “بلوك تشين” لديها أيضا جانب سلبي، فالمستوى العالي من السرية الذي توفره يشكل ملاذا آمنا للخارجين عن القانون، وهذا ما دفع وكالة الاستخبارات المركزية “سي أي إي” ومكتب التحقيقات الفدرالية “أف بي أي” إلى تطوير أساليب لتتبع آثار العمليات غير القانونية في عالم العملات الرقمية.
جانب سلبي آخر يكمن في عدم استقرار قيمة العملات الرقمية المشفرة بسبب الانقسامات التي تشهدها نتيجة ميل المطورين إلى الاستقلالية وإنشاء مشاريع جديدة. ناهيك عن أنّ عدم خضوع العملات الرقمية المشفرة لرقابة مباشرة من الحكومات أو السلطات المركزية أمر لا يمكن ضمان نتائجه.
نحن إذا أمام تقنية متطورة غير مستقرة دائما عند استخدامها في القطاع المالي. وعلى الرغم من ذلك، فإن “بلوك تشين” كتقنية ثورية قادرة على تغيير شكل العالم الذي نعيش فيه، بدءا من القطاع الصحي إلى النقل فالإنتخابات بل حتى الصحافة!
فبعد أن تأثرت صناعة الأخبار كالكثير من المهن وقطاعات الأعمال في العام 2020 بسبب جائحة كوفيد 19، وبعد إنتشار الأخبار الزائفة بشكل بارز حول الوباء العالمي، من المتوقع أن تعتمد وسائل الإعلام على أنظمة رصد صارمة تستند إلى “بلوك تشين” بهدف التحقق من المصادر وملاحظة أي تعديل على المحتوى فور حدوثه.
استخدام “بلوك تشين” في تحديد التعديلات على الأخبار من شأنه التقليل من انتشار الأخبار الزائفة، علماً أن فكرة الابتكار الجاري تطويره تعتمد على إظهار أي تعديل أمام عامة المستخدمين كي يصبح التحقق من المصدر الأول للخبر أمرًا ممكنا.
قطاع النقل أيضًا يسعى للإستفادة من “بلوك تشين”. فالتقنية الحديثة التي تخزن البيانات بشكل لا مركزي قد توفر حلا رائدا في مجال المركبات التي تسلم البضائع للمتاجر والمنازل على حد سواء.
وتعمل عدة مختبرات صناعية على تطوير أنظمة مؤتمتة بالكامل يجري تزويد السيارات والعربات والطائرات من دون طيار بها لتسجيل عمليات توصيل وتسليم البضائع بكافة مراحلها وسيكون بمقدور العميل أو الزبون متابعة مسار عملية تسليم البضاعة التي اشتراها بدءًا من خروجها من مركز الشحن إلى مركبة النقل وصولا إلى منزله.
وتعتمد بعض منصات التسوق العالمية كـ “أمازون” و”علي اكسبرس” بالفعل على خدمة مماثلة، لكن الدقة والأمان اللذين تؤمنهما تقنية بلوك تشين لا مثيل لها في الوقت الراهن.
إلى صناعة السيارات، حيث تعمل شركات عديدة على تزويد السيارات الكهربائية تحديدا بتقنية بلوك تشين. وستتيح التقنية الحديثة للسيارة الكهربائية تسجيل فاتورة الكهرباء عند الشحن بشكل آلي، بما في ذلك حجم الاستهلاك وموقع الشحن والمدة الزمنية والعمر الافتراضي للبطارية وغيرها من البيانات.
وفي المستقبل القريب، سيكون بمقدور كل سيارة ذكية الدفع تلقائيا من حساب مالي مربوط بها لمحطة الشحن الكهربائي التي تزودها بالخدمة. كل ذلك بفضل “بلوك تشين” التي ستضمن أيضًا متابعة مسار أي سيارة والمعلومات المرتبطة بحركتها.