مكانة الصحابة رضي الله عنهم.. بقلم الشيخ حسين المؤيد
للصحابة رضي الله عنهم ، عند أهل السنة و الجماعة و هم جمهور الأمة الإسلامية ، مكانة كبيرة و متميزة – دون غلو أو تنطع أو إجحاف – بُنيت على اعتبارات موضوعية .
و ليس موقف أهل السنة و الجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، منطلقا – كما يحاول الكثير من منظري التشيع المذهبي الإثني عشري زعمه – من لون من الضدية من آل البيت لا سيما عليّ رضي الله عنه ، أو محاولة لطمس رمزية آل البيت باعتماد الصحابة رمزا بديلا ، فهذا الزعم تشويه و تزوير ، تكذبه الحقائق الدامغة ، سواء على مستوى الاعتبارات الموضوعية التي ألزمت الأمة بإجلال الصحابة و تزكيتهم ، أو على مستوى تبجيل أهل السنة و الجماعة لآل البيت ، و اعتبار ذلك حقا و حكما شرعيا ، ذلك التبجيل الذي تحول عند قطاع ليس بالهين الى لون من التشيع الروحي .
هناك مجموعة اعتبارات موضوعية ، تفرض على كل مسلم ، إجلال صحابة النبيّ صلى الله عليه و سلم ، أهمها : –
١- اتباع الكتاب و السنة ، فإذا رجعنا الى القرآن الكريم ، وجدنا الثناء العظيم على صحابة النبيّ صلى الله عليه و سلم ، و التزكية لهم ، و الوعد الواضح لهم بحسن المنقلب . و سيأتي الاستشهاد بآيات الكتاب المجيد التي تدل دلالة واضحة على ذلك .
و كذلك السنة النبوية الصحيحة ، حيث نجد أحاديث نبوية واضحة الدلالة ، في الثناء على الصحابة ، و الأمر بإجلالهم ، و النهي عن الطعن فيهم ، لا سيما المهاجرين و الأنصار . و هناك أحاديث نبوية صحيحة ، في الثناء على صحابة بأعيانهم و بيان فضائلهم .
ومن الواضح أن المسلم المنقاد لله الرسول ، لا يسعه أن يتنكر لهذه الآيات والأحاديث، بل يجب عليه أن يصوغ فكره وسلوكه، وفقا لها .
وأما محاولة تصيّد آيات و أحاديث ، يتخذ منها دليلا على الطعن في الصحابة، أو تطفيف مكانتهم، فهي محاولة فاشلة تنظر للأمور عمدا أو جهلا، نظرة عوراء .
٢- إن صحابة النبيّ عليه الصلاة و السلام ، هم الواسطة الرئيسة في أخذ الدين ، فبهم حُفظ الكتاب المجيد و السنة النبوية الشريفة ، فهم حملة الكتاب و السنة و رواتهما ، و هذه حقيقة لا يمكن إنكارها . فالطعن في الصحابة ، إزراء بالدين الإسلامي و إسقاط لاعتباره ، فهم سور الدين الذي يمنع اعتراض الريب فيه .
إن دعوى الإمامة الدينية المنصوصة ، قد اتضح أنها فاقدة لمقومات معقوليتها ، و بالتالي لا يمكن افتراضها فضلا عن اعتمادها ، طريقا صحيحا لأخذ الدين و حفظ كتاب الله و سنة نبيّه صلى الله عليه و سلم ، فانحصر الطريق بالجيل الذي عاش مع الكتاب و السنة مباشرة و عرفهما و نقلهما ، و هو جيل الصحابة رضي الله عنهم ، فالطعن في هذا الجيل ، بمثابة اسقاط الدين عن الاعتبار و اعتراض الريب فيه .
٣- حقيقة جيل الصحابة رضي الله عنهم، فهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه و سلم حين كذبه الناس، وهم الذين نصروه و آزروه إذ حاربه الأقربون و الأبعدون، وهم الذين استعدوا للتضحية من أجل الرسالة، وهم الذين رفعوا راية الإسلام و حملوا مشعله الى الآفاق، وهم رموز تاريخنا الإسلامي المجيد ، فالطعن فيهم ، إزراء بالرسالة و بشخصية الرسول و ملكاته القيادية، وإزراء بتاريخ الأمة و أمجادها .
إن صحابة النبيّ صلى الله عليه وسلم، إن قورنوا بصحابة الأنبياء البارزين ، فاقوهم إيمانا و وعيا و طاعة و تضحية.
لقد مكث نوح عليه السلام تسعمئة و خمسين عاما، يدعو قومه للتوحيد ، فتنكروا له و أعرضوا عنه و تواصوا بذلك، و في نهاية المطاف ما آمن معه إلا قليل ، حتى أنه دعا على قومه بالاستيصال ( ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا . إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك و لا يلدون إلا فاجرا كفارا ) .
ولم يُعرَف لإبراهيم عليه السلام ، صحابة تمحوروا حوله و احتضنوا دعوته ، بل كان لوحده أمة ( إن إبراهيم كان أمة ) .
وأما موسى عليه السلام، فمع أنه جاهد لجمع بني إسرائيل و إنقاذهم من الاستضعاف، و شاهدوا معجزاته الكبرى ، فقد عانى و قاسى من لجاجتهم وتمردهم، و قالوا له ( أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا )، و كانوا ينادونه باسمه، وطالبوا موسى فقالوا ( أرنا الله جهرة )، ثم اتخذوا العجل و هم ظالمون، و( قالوا سمعنا و عصينا و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) و قالوا ( اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) حتى قال موسى شاكيا لله ( ربّ إني لا أملك إلا نفسي و أخي )، ثم تركهم موسى في التيه .
وأما عيسى، فخاصته هم الحواريون الذين قالوا له مع مشاهدتهم لمعجزاته ( يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) . فانظر كيف يخاطبون المسيح باسمه ، و كيف تعبيرهم إذ يقولون ( هل يستطيع ربك ) .
هذا حال صحابة أولي العزم من الرسل . و أما صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقد آمنوا به إيمانا عميقا، وانقادوا له طائعين، وتحملوا في نصرة الاسلام الجوع والضيق و الأذى، و قاتلوا أسرهم و عشائرهم من أجل الدين، وجاهدوا معه في كل غزواته وحروبه بأنفسهم و أموالهم، وقالوا له لو خضت بنا البحر لخضناه معك، وكانوا يوقرونه ويبجلونه ولا يخاطبونه إلا برسول الله .
واستقاموا مخلصين للرسالة و قائدها ، يجاهدون في آفاق الأرض بإيمان لا نظير له ، أمام قوى كبرى في ذلك الوقت ، فأسقطوا الفرس ، و هزموا الروم ، و حوّلوا الكيان الفتيّ في المدينة المنورة الى قوة دولية كبرى في زمن قصير .
فأي مسلم بل أي عاقل ، يرضى لنفسه، بعد ذلك كله، أن يطعن في إيمان هذا الجيل و التزامه بالرسالة وصدقه و تفانيه في سبيلها ؟!
٤- العدل و الإنصاف، فقد نهج أهل السنة منهجا وسطا معتدلا ، فلم يستبد بهم غلو، ولم يستدرجهم تقديس يخدش في التزامهم بالتوحيد و العبودية لله عز و جل، ولم يتنكروا لفضائل الصحابة و مآثرهم ، و يتصيدوا في الماء العكر، ما قد يصدر بحكم الطبيعة البشرية لكل غير معصوم من الخطأ، فيحكمون على الشخص بالسقوط ، في إجحاف مخل بالعدل و الإنصاف .
إن القول بعدالة الصحابة ، هو الذي يتفق مع تعاليم الدين في التعامل مع المؤمنين ، و ما ورد في حق الصحابة من ثناء كتابا و سنة ، وما يقتضيه النظر الى سجلّهم في الإيمان و المؤازرة و الجهاد والنصرة و التضحية. والعادل لا تمتنع عليه المعصية، ولكن ملكة العدالة فيه راسخة ، فلا تُسقط معصيتُه عدالتَه، و لا توجب رفع اليد عن تزكيته .
و إذا كان على المسلم أن يتعامل مع المسلم العادي بحسن النية و سلامة الصدر و عفة اللسان ، فكيف مع صحابة النبيّ صلى الله عليه و سلم . و إذا كانت موالاة المؤمن العادي واجبة و معاداته حراما ، فكيف بصحابة النبيّ صلى الله عليه و سلم .
٥- إن تزكية الصحابة رضي الله عنهم ، هي مقتضى منطق طبيعة الأشياء ، فهذا منطق عقلي يقودنا الى نتيجة قطعية ، تقضي بتزكية جيل الصحابة رضي الله عنهم .
توضيح ذلك :
في علم المنطق ، قضايا يطلق عليها هذا العلم، اصطلاح اليقينيات. وهذه القضايا في علم المنطق ، هي الأساس المتين الذي تقام عليه كل المعارف البشرية الصحيحة ، لأن المعرفة البشرية لكي تكون سليمة ، لا بد أن تستند الى اليقينيات التي يدركها أي إنسان حتى الأميّ دون حاجة الى استدلال ، و لذا يسميها علم المنطق ، مباديء المطالب أو مباديء الأقيسة ، إذ يتشكل البرهان من قياس تترتب فيه المقدمات الموصلة للنتيجة . فكل المعارف البشرية ، مهما تنوعت مجالاتها و حقولها ، لا بد أن ترجع في نهاية المطاف الى اليقينيات ، أي الى المباديء التي لا تحتاج الى استدلال ، و إنما يدركها العقل بوضوح و دون إقامة دليل ، بحسب ما صممه الله تعالى له من الإدراك .
وقد قسّم المنطق الأرسطي ، اليقينيات الى عدة أقسام ، فهناك الأوليات، والتجربيات، والمشاهدات. وهناك من اليقينيات قضايا يسميها المنطق الأرسطي، الفطريات لأنها تُدرَك بالفطرة . فالفطريات، عبارة عن قضايا إذا تصورها الإنسان بطرفيها، وبالوسط الذي يربط بين الطرفين، والذي هو حاضر في الذهن عند تصور الطرفين ، فإنه يصدّق بالنتيجة تصديقا جازما لا شك فيه . فإدراك أن الإثنين خمس العشرة مثلا ، لا يحتاج الى دليل برهاني ، إذ بمجرد تصور العشرة و تصور الإثنين و تصور نسبة الإثنين الى العشرة ، نصل الى أن الإثنين خمس العشرة . هذا من جهة .
ويصف علم المنطق، القضايا الفطرية ، بأنها قضايا قياساتها معها، بمعنى أنها لا تحتاج للتصديق بها، الى أدلة خارج إطار القضية نفسها، فكل قضية من هذه القضايا، تحمل معها ما يوجب التصديق بها .
ومن جهة أخرى، هناك شيء يسمى دليل طبيعة الأشياء . وهو يعني أن العقل يستطيع أن يصل الى نتائج مقبولة ومنطقية، بالنظر الى طبيعة شيء يتعلق به التفكير . ومثال ذلك ، يدرك كل إنسان سويّ التفكير، أنه إذا أراد أن يكون ابنه عالما ، فعليه أن يهيء له كل المستلزمات التي تجعل الإبن عالما ، كاختيار أساتذة أكفاء ، أو وضعه في مدرسة نموذجية، وأن يوفر له الجو العلمي الذي يساعده على الدراسة و الترقي في مدارج العلم، و ينمّي قدراته و مواهبه .
ما الذي جعل هذا الإنسان ، يدرك ضرورة تهيئة كل تلك المستلزمات لابنه كي يصبح عالما ؟
والجواب هو: طبيعة الأشياء . فطبيعة التعلم و صيرورة الإنسان عالما، لها متطلبات ومقتضيات، لا بد من تهيئتها للوصول الى الهدف .
يسمى هذا، دليل طبيعة الأشياء ، بمعنى إمكان الوصول الى نتائج معينة ، بالنظر الى مقتضيات طبيعة الشيء الذي يتعلق به الطلب .
والآن، إذا أخذنا بنظر الاعتبار، القضايا الفطرية و دليل طبيعة الأشياء، وطبقناهما على حقائق حركة الرسالة الإسلامية ، سنصل بدون براهين و استدلالات معقدة، الى نتيجة يقينية جازمة ، تقضي ببطلان التشيع المذهبي الإثني عشري ، و رؤيته للأحداث و الأشخاص .
كيف ذلك ؟
والجواب هو، إذا أخذنا بنظر الاعتبار، الحقائق التالية : –
١- إن الإسلام ، هو الدين الذي أراده الله تعالى دينا عالميا ، فهو ليس رسالة محلية أو قومية أو مناطقية ، و إنما هو دين رباني للبشرية جمعاء ، و قد بعث الله محمدا عليه الصلاة و السلام ، رسولا للعالمين .
٢- إن الله عز و جل ، أراد للإسلام أن يكون خاتما للرسالات الإلهية ، فلن تأتي بعده رسالة إلهية أخرى ، و سينقطع الوحي بوفاة رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم .
٣- إن الإسلام هو الرسالة العالمية التي أراد الله عز و جل أن تبقى خالدة الى يوم القيامة .
٤- إن الرسالة الإسلامية ، و لكي تؤدي دورها في البشرية ، بوصفها الرسالة الإلهية الخاتمة التي لن تأتي بعدها رسالة إلهية تصحيحية ، فلا بد أن تبقى محافظة على محتواها و مصداقيتها من دون تحريف ، و يبقى انتسابها الى الله محفوظا .
٥- إن هذه الرسالة الربانية ، ستواجه تحديات كبيرة منذ بزوغها ، و سيكون لها أعداء ألداء، يحاولون إطفاء نورها، ويسعون لمحاربتها و محاربة أتباعها .
٦- إن نبيّ هذه الرسالة ، لن يبقى حيا على امتداد حركة هذه الرسالة زمنيا ، و إنما سيعيش مدة زمنية محدودة ، يجب خلالها أن يبلّغ الرسالة ، و أن يربّي جيلا يفهمها و يحتضنها و يضحي من أجلها و يحمل مشعلها و يواجه التحديات الجسام ، و يكون القاعدة الصلبة التي تقف عليها هذه الرسالة ، لتبقى بما تتضمنه من محتوى أصيل ، و تمتد زمانيا و مكانيا الى يوم القيامة .
إذا أخذنا النقاط المتقدمة بنظر الاعتبار ، و كلها حقائق ثابتة ، فالنتيجة القطعية التي نصل اليها بتصور أطراف القضية و الارتباط فيما بينها، وما تقتضيه طبيعة الأشياء، هي أن الجيل الطليعي الذي عاصر وصاحَبَ النبي صلى الله عليه وسلم ، هو القاعدة الأساسية لهذه الرسالة، وأنه لا بد أن يكون على مستوى عال جدا من الإيمان و الاستعداد لاحتضان الرسالة و التضحية من أجلها ، و الطاعة لله و الرسول، فهذه هي النتيجة الطبيعية التي يقودنا اليها دليل طبيعة الأشياء، و بخلاف ذلك ، نكون قد خرجنا عن التفكير المنطقي .
وهكذا نجد أن أهل السنة و الجماعة ، و بناء على ما تقدم من اعتبارات موضوعية ، قالوا : ( و نحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، و لا نفرّط في حب أحد منهم ، و لا نتبرّأ من أحد منهم ، و نبغض من يبغضهم و بغير الخير يذكرهم ، و لا نذكرهم إلا بخير ، و حبهم دين و إيمان و إحسان ، و بغضهم كفر و نفاق و طغيان )
حسين عبد القادر المؤيد