أيمن أبو الشعر يكتب.. زيلينسكي يبدأ بـ«الحنجلة 1» ويصل إلى تقليد مشية الغراب
الكرملين: العملية العسكرية في أوكرانيا خلقت واقعا جديدا بانضمام أربع مقاطعات إلى روسيا، وأية مفاوضات يجب أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار
رئيس الوزراء البولوني يعتبر أن العالم دخل مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثالثة وأن الحرب لم تعد من مفهوم الماضي
يقول المثل الشعبي “الحصن المنيع يستسلم من الداخل” فما بالك إن لم يكن حصينا منيعا، بل مجرد أسوار شبه متداعية تم تدعيمها بخراسانات الإسمنت المسلح نتيجة ضخ السلاح والمال والدعم بشتى أشكاله من الخارج…
نعم أتحدث عن أوكرانيا، وبمنتهى الموضوعية، ولست مسؤولا إن كان طرحي الموضوعي يبدو وكأنه منحاز لهذا الطرف دون ذاك، هذا نتيجة مفارقة الوهم عن الواقع، وبعبارة سياسية هذا نتيجة سعي الدوائر الغربية لتصوير ما هو مرغوب وكأنه حقيقة على أرض الواقع، من خلال الإيحاء بكل مناسبة بأن أوكرانيا ستنتصر على روسيا، هذا التوجه العبثي الجنوني دفع ثمنه للأسف الشعب الأوكراني، وطبعا الشعب الروسي أيضا، ولكن بنسبة واحد إلى عشرة.
ويبدو أن الواقع لا الوهم بدأ أخيرا يعطي ثماره الفجة بعد، من خلال تصريحات الرئيس الأوكراني زيلينسكي نفسه التي يشير فيها لا إلى القبول بالمفاوضات وحسب، بل وأنه مستعد للتخلي عن شبه جزيرة القرم!!! هل يعقل هذا؟ وهو الذي حرَّم المفاوضات مع روسيا بموجب القانون، حيث وقع في 30 سبتمبر عام 2022 على مرسوم رئاسي يحظر أي تفاوض مع روسيا، هذا ناهيك عن أن تصريحات زيلينسكي نفسه، وجميع كبار المسؤولين الأوكرانيين ظلت تؤكد أن أوكرانيا ستقاتل روسيا حتى تحرير جميع الأراضي التي تعتبرها تابعة لها والمقصود 1- شبه جزيرة القرم، 2- جمهورية دونيتسك، 3- جمهورية لوغانسك، 4- أقليم زاباروجيه، 5- إقليم خيرسون. فما الذي جرى؟
-تصريحات نوعية مفاجئة
لا بد من التنويه منذ البداية بأن التصريح “غير صريح” لكنه موح تماما، حيث أعلن وللمرة الأولى في مقابلة مع شبكة “سي بي إس نيوز” أن المفاوضات مع روسيا يمكن أن تبدأ حتى دون عودة أوكرانيا إلى حدود عام 1991، أي واقعيا دون أن تستعيد أوكرانيا جميع ما تعتبره أراضيها، والتي كانت تحت لوائها عام 1991، وأن روسيا حسب زيلينسكي ستكون مستعدة للحوار إذا تمكنت أوكرانيا من الوصول إلى حدود عام 2022 أي ما قبل بدء العملية العسكرية الروسية، وهذا يعني بصريح المضمون بدون شبه جزيرة القرم التي انضمت لروسيا عام 2014.
وأضاف زيلينسكي في هذا الحوار أن أوكرانيا لن تضطر إلى إخلاء جميع أراضيها بالوسائل العسكرية فقط، وشدد على أنه متأكد أن الرئيس بوتن عندما سيخسر ما كان قد استولى عليه بدءا من عام 2022، فإنه سيغدو مستعدا للحوار!!! غريب أليس كذلك؟ ثم إلى ماذا تؤشر مثل هذه التصريحات؟ ماذا تعني بعد سيل جامح من الإعلانات الصاخبة العنيفة المتوعدة التي تهدد روسيا بالويل والخسران والهزيمة؟
-موسكو ترد وتسخر
طبعا فهمت روسيا أن الضغط العسكري في جبهات القتال كان أقوى بكثير من الأوهام التي حاول الغرب العزف عليها طويلا، ولكن “حبل الكذب قصير”.
وهكذا تلاحقت التصريحات الروسية في إطار الرد على زيلينسكي وبهدوء ووضوح وأحيانا بما لا يخلو من سخرية نتيجة التخبط في المواقف والتصريحات المفاجئة والمدهشة للجميع.
فقد أعلن بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الكرملين أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا غيَّرت الحدود، وبالتالي خلقت واقعا جيوسياسيا جديدا، وشدد بيسكوف على أن المناطق الأربع الجديدة التي انضمت إلى روسيا خلقت واقعا جديدا ” لاحظوا أنه يعتبر أن موضوع انضمام القرم نافل لا يمكن حتى أن يذكر في هذا المجال” وعلى الجميع أن يأخذوا هذه التغييرات بعين الاعتبار، ولننتبه أيضا إلى الصياغة المقصودة، فهو رغم أنه يردُّ على الرئيس زيلينسكي لم يقل أن على أوكرانيا أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار بل قال الجميع، لأنه يخاطب الغرب الذي دفع أوكرانيا لأن تتعلق بأهداب الوهم، الناتو وواشنطن بالدرجة الرئيسية.
وبالتالي فأن الكرملين يوضح أنه يمكن تكريس الحل السلمي حين تؤخذ الوقائع الجديدة بعين الاعتبار.
وسخرت زاخاروفا من التناقض في تصريحات زيلينسكي معتبرة أنه متوتر مذكرة حتى بإلغاء زيلينسكي الانتخابات الرئاسية في أوكرانيا، وأنه كان يتمسك بشكل مستميت بعودة القرم وباستعادة حدود عام 1991.
وأوضحت زاخاروفا أن صيغة السلام التي طرحها زيلينسكي تنطلق من الغش والخداع حتى أنها وصفتها بأنها “بوفيه مفتوح” تعتمد على انتقاء ما يعجبهم وإهمال ما لا يعجبهم.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن موسكو أعلنت مرارا أنها مستعدة للحوار والتفاوض الذي بدأ فعلا في 15 أبريل في 2022 في استانبول لكن الغرب أحبط تلك المفاوضات، وتشير “وول ستريت جورنال” حسب معلوماتها الخاصة إلى أن مسودة الاتفاق كانت قد أُعدت، بل وتذكر أنها من 17 صفحة، وتتيح لأوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، ولكن ليس إلى الناتو، إلا أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق جونسون سافر خصيصا إلى كييف لإقناع القيادة الأوكرانية بالانسحاب من المفاوضات، الأمر الذي دفعت أوكرانيا ثمنه مئات آلاف القتلى والجرحى والمعوقين، ودمار هائل للبنى التحتية.
-أهي أريحية شخصية أم ضغوط داخلية وخارجية، وهي في هذا وذاك تذكر بمثلنا الشعبي أول الرقص “حنجلة” أي تقليد المشية التي تشبه الرقص، لكن زيلنسكي نتيجة تخبطه وتناقضاته يغدو كالغراب الذي أراد أن يقلد العصفور فنسي مشيته هو وراح يتقافز حينا ويمشي حينا آخر.
– التوقيت
يطرح السؤال نفسه، لماذا جاءت تصريحات زيلينسكي الآن تحديدا؟
في تصوري هناك عاملان رئيسييان، داخلي وخارجي:
الداخلي أن زيلينسكي بعد مرور عامين بات يقف على الأطلال، لكنه لا ينشد كشعراء الجاهلية مطالع غزلية، بل رثاء مُرّاً لمئات آلاف القتلى من جنوده، وبلا جدوى الأمر الذي حذرت منه موسكو مرارا، وأوضحت أن إرسال مزيد من الأسلحة إلى كييف يعني إطالة أمد الصراع وسقوط مزيد من الضحاياـ بل والأكثر من ذلك أنه بدل الانتصارات الموعودة، تحطمت أحلام هجومه المضاد الذي فشل، واجتاحته هزائم كبرى، وتمكنت القوات الروسية من تحرير مساحات واسعة جديدة، والعديد من المدن والبلدات، وكما يقال الحبل على الجرار، وقد يخسر قريبا مدينتين كبريين هما أوديسا وخاركوف حتى أن بعض السفارات الأجنبية بدأت تناشد رعاياها بمغادرة هاتين المدينتين.
وحسب قائد القوات الأوكرانية الجديد سيرسكي فإن على الجيش الأوكراني الآن الحفاظ على الأراضي الأوكرانية، ومحاولة الحيلولة دون خسارتها، وأن القوات الأوكرانية تحولت إلى الدفاع بدل الهجوم.
والخارجي تخوف العالم من نشوب حرب عالمية ثالثة لا شك أنها ستكون نووية، لن تبقي ولا تذر، حتى أن رئيس الوزراء البولوني دونالد تاسك أعلن بوضوح أن العالم دخل مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثالثة وأن الحرب لم تعد مفهوما من الماضي بل غدت حقيقة، ويبدو أن بعض العقلاء في العالم بدأوا يلجمون الدول الجامحة في هذا المجال كفرنسا وبولندا، لأنهم لا يريدون أن يفنى الكوكب الأرضي كرمى لأوكرانيا التي طغت في السنوات الأخيرة عليها النزعة النازية مهما حاول الغرب التستر على ذلك، وهذا الأمر يمكن معالجته بتربية إنسانية واعية قد تحتاج عشرات السنين، ولكن ليس بالموت والدمار.
-الزبدة
ربما يستغرب القرّاء الأعزاء مما سأقوله، وأنا أعنيه من كل قلبي.
إنني حقا أتألم بحرقة على الشعب الأوكراني الذي كان ضحية خديعة كبرى، ودخل في طاحونة لعبة الأمم، كان هدف الغرب عموما والناتو خصوصا أن تتحول أوكرانيا إلى رأس حربة ضد روسيا، وليس لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي الأمر الذي تسعى له تركيا منذ عشرات السنين بلا جدوى، ولكن لماذا حدث ما حدث، وكيف؟ ومن المسؤول؟ هذا يحتاج إلى وقفة تفصيلية أخرى ولكني أكشف سرها باختصار شديد منذ الآن:
المسؤول الحقيقي عن كل هذه المصائب والكوارث هما غورباتشوف ثم يلتسين، غورباتشوف الذي قدم للغرب أكثر بكثير مما يحلم به من سيادة الاتحاد السوفييتي، وسار في طريق تدميره ليكسب تصفيق الخصوم، ثم يلتسن الذي مضى قدما في هذه الطريق، وتهديم كيان يضم عشرات الشعوب بدا كحقل قمح مخصاب، كان لا بد أن ينتهي بحريق، وحرائق حقل القمح لا تتوقف إلا بمعجزة مطرية، أو أن تأتي على الحقل بأكمله، وقد دفعت شعوب عديدة ثمن خيانة غورباتشوف وإدمان يلتسن.
والرهان الآن على رجاحة العقل والحكمة لإيقاف هذا الحريق، وقد ذكرت في مقالة سابقة أنني أتوقع أن تنتهي الحرب خلال عام أو عامين، لا بد من كشف الحقيقة للعالم، وكما يقول ابراهام لنكولن أحد زعماء أمريكا: بإمكانك أن تخدع بعض الناس كل الوقت، وبإمكانك أن تخدع كل الناس بعض الوقت، لكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس طيلة الوقت.
1- الحنجلة مشية متصنعة، متمايلة توحي بالرقص، ومنها اشتُقَّ المثل الشعبي “أول الرقص حنجلة”