الدكتور محمد العرب يكتب.. السعودية مهد الحضارات الأولى قبل العراق ومصر

شبه الجزيرة العربية، التي تُعرف اليوم بصحرائها وحرارتها، كانت في فترات من تاريخها نقطة انطلاق لحضارات عظيمة اندثرت وطُمرت تحت الرمال، تاركة وراءها أثراً غامضاً يداعب خيال الباحثين.
المملكة العربية السعودية، التي تحتل قلب الجزيرة، تُعد الآن مركزاً لاكتشافات أثرية مذهلة تعيد رسم تاريخ البشرية، حيث تكشف التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والمسح الجيولوجي عن وجود حضارات أقدم ممَّا كان يُعتقد.
حضارة المقر، المكتشفة في وادي الدواسر وسط السعودية، تُعد من بين أبرز الاكتشافات، إذ يعود تاريخها إلى أكثر من 9000 عام قبل الميلاد.
سكان المقر أظهروا تقدماً فريداً في تربية الخيول، وهو إنجاز مذهل في ذلك العصر. الأدوات الحجرية وآثار الاستيطان تشير إلى مجتمع مستقر كان يعتمد على الزراعة والرعي، ما يجعل حضارة المقر إحدى أولى الحضارات التي وثقت علاقة الإنسان بالحيوان والطبيعة.
لكن حضارة المقر ليست البداية الوحيدة. في صحراء النفود الكبير، التي تقع شمال المملكة وتمتد على مساحة شاسعة تصل إلى حوالى 65,000 كيلومتر مربع، وتغطي أجزاء من مناطق حائل، والجوف، وتبوك، والقصيم، اكتُشفت أدوات حجرية تعود إلى أكثر من 120,000 عام قبل الميلاد.
هذه الأدوات تشير إلى أنَّ الجزيرة العربية كانت مأهولة من قِبل الإنسان القديم في عصور ما قبل التاريخ.
كما اكتشف فريق من الخبراء السعوديين والدوليين عظماً بشرياً يعود تاريخه إلى 90 ألف سنة، ويعد أقدم عظم بشري وجد حتى الآن في شبه الجزيرة العربية. وقد عثر عليه على ضفة بحيرة جافة في صحراء النفود قرب محافظة تيماء في منطقة تبوك.
وفي نفس المنطقة، كشف العلماء عن لوحات بالحجم الطبيعي للإبل على صخرة بالقرب من الحافة الجنوبيَّة لصحراء النفود.
في دراسة جديدة، وثق علماء من معهد ماكس بلانك لعلم الأرض الجيولوجي في ألمانيا مجموعة من المنحوتات التي تصوّر عشرات الجمال البرية بالحجم الطبيعي، وأنواعاً منقرضة لم تحصل على اسم علمي أبداً.
هذه اللوحات، المنشورة في مجلة Archaeological Research in Asia، تعكس حياة المنطقة قبل آلاف السنين، وتؤكد غناها البيئي والتاريخي.
وكان فريق دولي من علماء الآثار أعلن العثور على قطع أثرية وأدوات يبلغ عمرها حوالى 350 ألف سنة، وهذه الدراسة نشرت في مجلة Scientific Reports، وأفردت لها شبكة أخبار علم الآثار موجزاً خاصّاً.
هذا الاكتشافات تعزز فرضية أنَّ الجزيرة العربية كانت ممراً رئيسياً للهجرات البشرية الأولى الخارجة من إفريقيا. تلك الفترات تزامنت مع مناخ أكثر رطوبة، حيث غطت الأنهار والبحيرات مناطق واسعة من الجزيرة، مما جعلها بيئة مناسبة لقيام تجمعات بشرية.
وفي الربع الخالي، الذي يصفه البعض بأنه صحراء بلا نهاية، تأتي الاكتشافات لتثبت أنه لم يكن خالياً. تقنيات الذكاء الاصطناعي كشفت عن وجود شبكات مائية قديمة وأحواض دفنتها الرمال منذ آلاف السنين.
يُرجح أن هذه المنطقة، التي تُعد اليوم واحدة من أكثر بقاع الأرض جفافاً، كانت موطناً لحضارات قديمة ازدهرت قبل نحو 7000 عام قبل الميلاد. تلك الحضارات قد تكون اندثرت بفعل التحولات المناخية التي حولت الواحات الخصبة إلى أراضٍ قاحلة.
النقوش الصخرية في مناطق مثل حائل والعُلا تقدم لمحات مثيرة عن الشعوب التي سكنت الجزيرة. تلك الرسوم التي توثق مشاهد الصيد والحياة اليومية تعكس عمق التطور الاجتماعي والثقافي للإنسان في تلك الحقبة.
أما حضارات مثل ثمود ومدين، التي ذُكرت في النصوص التاريخية والدينية، فقد تركت آثاراً واضحة، من بينها مدائن صالح، التي تُبرز براعة الأنباط في إدارة المياه والهندسة المعمارية قبل أكثر من 2000 عام.
الاكتشافات لا تقف عند هذا الحد. في مناطق مثل خيبر وحائل، ظهرت آثار تعود إلى العصر الحجري الحديث (10,000 – 7,000 عام قبل الميلاد)، حيث استُخدمت الأدوات الحجرية في الصيد والتجمع، مما يدل على وجود تجمعات بشرية صغيرة متكيفة مع طبيعة الجزيرة المتغيرة.
أما الآثار التي تعود إلى العصر البليستوسيني (500,000 عام قبل الميلاد)، فتُعتبر شاهداً على وجود الإنسان الأول في هذه المنطقة خلال فترات مبكرة جداً من التاريخ البشري.
المستقبل يحمل وعوداً واكتشافات أكبر. بفضل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجيولوجية الحديثة، يتمّ الآن استكشاف أعماق الرمال في أماكن لم تكن متاحة للتنقيب سابقاً.
من المتوقع أن يكشف المسح الجيولوجي في مناطق مثل الربع الخالي وجبال عسير عن مدن مدفونة أو تجمعات بشرية كانت ذات يوم مزدهرة قبل أن تبتلعها الرمال.
الأقمار الصناعية والرادارات المخترقة للأرض قد تُظهر ملامح شبكات طرق تجارية وممرات مائية قديمة، مما يعزز فرضية وجود حضارات متقدمة قبل آلاف السنين.
رمال الجزيرة هي خزانة للتاريخ تنتظر من يفتحها. الحضارات التي مرت من هنا لم تترك وراءها فقط أدوات ونقوشاً، بل دروساً عن قدرة الإنسان على التكيف مع الطبيعة ومواجهة تحديات البقاء.
كل اكتشاف جديد لا يضيف إلى الماضي فقط، بل يعيد تعريف الحاضر ويرسم خريطة جديدة للمستقبل، تجعل من الجزيرة العربية ليس فقط مهد الحضارات، بل بوابة لفهم أعمق للتاريخ البشري.
ختاماً، الاكتشافات الأثرية في الجزيرة العربية، تثبت وجود نشاط بشري مبكر يسبق الحضارات المركزية في العراق ومصر وإنها تُظهر أن الجزيرة العربية كانت مهداً للبشرية ومنطلقاً للهجرات الأولى عبر التاريخ.