«بين الموت والحرب».. صدى الشعر في مواجهة العزلة والحرية

لهيب عبدالخالق
في الأدب العالمي، لا يتوقف الشعر عن كونه أداة قوية للتعبير عن الوجود الإنساني بكل أبعاده. سواء كان في الشرق أو الغرب، وهو يعكس قضايا مجتمعية، فردية، وفلسفية، ويعرض هموم الإنسان في مواجهة الموت، الحرب، والعزلة.
والشعر أداة التعبير الأعمق والأكثر قدرة على استحضار التناقضات الإنسانية، فهو ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو الصوت الذي يعكس الوجدان والتجربة الإنسانية بكل ما تحمله من قسوة، جمال، وعمق.
إن ما يميز الشعر هو قدرته على التجاوز، على تخطي الحدود الثقافية والجغرافية، ليصل إلى أبعد ما يمكن أن تحمله اللغة من معاني.
في هذا المقال، سنتناول مقارنة بين نوعين من الشعر المعاصر: الشعر الكندي ممثلًا في أعمال الشاعرة مارغريت آتوود، والشعر العربي المعاصر ممثلًا في الشاعر العراقي حميد سعيد. واخترنا هذين الشاعرين كأمثلة نموذجية لتسليط الضوء على الفرق بين الشعرين في تناول الموضوعات العميقة مثل الموت والحرب والعزلة.
ونلاحظ في الشعر الكندي اهتمامًا واضحًا بالقضايا الفردية الوجودية، ويظهر ذلك بشكل خاص في أعمال الشاعرة مارغريت آتوود. وآتوود، إحدى أعظم شاعرات كندا المعاصرات، تتميز قصائدها بالغموض العميق وتوجهاتها الرمزية.
وتعتبر رائدة في تناول موضوعات العزلة والموت والوجودية. يتميز شعر آتوود بأسلوبه الفلسفي الذي يطرح تساؤلات وجودية عميقة حول الإنسان وموته والعلاقة مع الكون.
بدأت مسيرتها الأدبية في ستينيات القرن الماضي، وهو نفس الوقت الذي بدأ فيه الشاعر العراقي حميد سعيد، ليجد نفسه في سياق مشابه من حيث الطابع التاريخي والانغماس في قضايا محورية تخص أزمانهما.
تتميز قصائد آتوود بعناية فائقة في تصوير الذات والحالة الإنسانية المعقدة، مدمجة بذلك بين الواقعية والتخيل، وبين الروح الإنسانية والتاريخ المعاصر.
وقد اخترنا قصيدتها “The Loneliness of the Dying” التي تتناول فيها تجربة الموت والعزلة الوجودية في إطار من التأملات الكونية التي تعكس القسوة واللامبالاة التي يتعامل بها الكون مع الإنسان.
في المقابل، يمثل حميد سعيد الشعر العربي المعاصر ويعتبر أحد أبرز شعراء العراق والعالم العربي الذين تعاملوا مع موضوعات الحرب والتدمير الاجتماعي والسياسي.
وينبع شعره من واقعه العراقي المليء بالأزمات السياسية والتاريخية، وهو يروي معاناة المجتمع الفردي والجماعي في ظل الحروب.
واخترنا قصيدته “رؤيا ملجأ العامرية” لأنها تجسد الأسلوب العربي في التعبير عن الألم الجماعي المرتبط بالحروب والتفجيرات الاجتماعية، وهو ما يميز الشعر العربي المعاصر.
من خلال هذه المقالة، نسعى لإلقاء الضوء على الجمالية البلاغية والرمزية في شعري آتوود وسعيد، ومقارنتها من خلال عدة مفاتيح نقدية، مع التركيز على تقنيات الكتابة والأساليب الشعرية التي تحدد سمات كل منهما.
ففي قصيدتها “The Loneliness of the Dying”، وترجمتها “عزلة الموت”، تستخدم آتوود الرمزية بشكل مكثف، إذ يظهر فيها التناقض بين الحياة والموت، بين التقدم والجمود، وبين الإنسان والعالم.
وتتعامل آتوود مع موضوع الموت بطريقة فلسفية، بحيث يصبح الموت مسألة تتجاوز الأفراد لتشمل الكون بأسره.
و تعكس القصيدة شعور الإنسان بالعزلة الشديدة في وجه الموت، وكيف أن الأرض تدور دون أن تلتفت إلى المعاناة البشرية. تقول آتوود:
“الأرض تدور،
لا من أجلنا،
لكنها تدور على أية حال.
لا يهمها إذا كنا أحياء أم أمواتًا،
إنها تدور، تُدير مسارها بدون أن تلتفت إلى وجعنا،
تدور في دورة عمياء، كأننا لم نكن.
ما من ضوءٍ يلتفت إلينا،
ما من نجمٍ يذكرنا،
إلا في لحظاتٍ متفرقة، مثل وميضٍ عابر.
نحن وحدنا هنا،
في هذا الظلام،
في العزلة التي لا تنتهي،
وفي صمتٍ يعم العالم كله،
الصمت الذي يطوّقنا
وينقض على أصواتنا الممزوجة بالبكاء.
لكن الأرض لا تُصغي،
تستمر في دورتها،
لا تكلّ ولا تملّ،
دون أن تهتم بنا،
بموتنا،
بآلامنا.”
وتستحضر هذه القصيدة مشهدًا سوداويًا عن العزلة المطلقة للموتى، وكيف أن الكون يستمر في دورانه كأن شيئًا لم يكن.
الأرض لا تلتفت إلى المعاناة البشرية ولا تهمها وجود أو موت الإنسان، بل هي تواصل مسارها كما لو أننا مجرد لحظة عابرة في دورة الزمن.
أما في الشعر العربي بالمقابل، فإن حميد سعيد يُعتبر من أبرز الأصوات الشعرية في العراق والمنطقة العربية بشكل عام، إذ يحمل في طيات قصائده العديد من الأسئلة العميقة حول الهوية، التاريخ، والنزاع بين الذات والواقع.
ويبرع سعيد في تصوير المعاناة والدمار الذي تخلفه الحروب، مُعبرًا عن الألم الجماعي للشعوب العربية في محنتها المستمرة.
وفي قصيدته الأخيرة “رؤية ملجأ العامرية”، يستخدم سعيد الأرض والملجأ كرمز للخراب الذي يترتب على الحروب وخصوصًا الحروب التي تعصف بالعالم العربي، ليكشف عن الآثار المدمرة التي تخلّفها الصراعات العسكرية في النفس البشرية.
من خلال هذه القصيدة، يقدم سعيد تفاعلًا حيويًا بين المكان والزمان، حيث يبرز التشبيه والرمزية بشكل مكثفف في قصيدته، ونقتطف منها:
“كُحلُها من رمادِ مَلجَأِ العامريَّةِ.. زينتُها من دمٍ
بهِ استبدَلَتْ فِراشها الوثيرَ..
إنَّ ملجأَ العامريَّةِ..
يَمنَحُها ما تشهَّت من رِياشِ الأباطرةِ المُترَفينَ..
لَحْماً مُحرَّقاً..
مَدَّت موائدَها لبغايا المعابِدِ
يَشكُرنَ ربَّ الجنودِ
وللبابليّاتِ وعدُ الحرائقِ..
يَنْزَعُ أثداءهُنَ ربُ الجنودِ
وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ..
تُقطِّعُ أرحامَهُنَ عواصِفُ سودٌ
وَلْتَكُنْ عاقِراً أنانا
ولتكُنْ عاقِراً كلّ أنثى
وللبابلياتِ وعدُ الحرائقِ
لا شجرٌ تتفيَّاُ ظِلَّهُ أنانا.. ولا ثَمَرٌ طيِّبُ
لا يمامٌ على النخيلِ .. ولا سمَكٌ في الفراتِ
دِناناً من الخمرِ أسقيكَ
ما زالَ في ملجأ العامرية طفلٌ تُحاصِرُهُ النارُ
فلتأكلُ النارُ أطرافَهُ
والذينَ احتموا بأناشيدِ أجدادِهمْ
ألقِهِمْ في جحيمِ مسرّاتنا ..
أنْ نرى الآخرينَ يموتونَ جوعاً”
تمثل هذه القصيدة صورة قاسية عن الحياة في ملجأ للناجين من الحروب، حيث يعيش الناس في ظروف مأساوية وغير إنسانية، يعانون من الجوع والنار والموت.
وتكشف القصيدة عن دمار الإنسانية وتدمير الأمل في تلك الأماكن المليئة بالدماء والدمار.
وعند المقارنة بين قصيدتي آتوود وحميد سعيد، نجد أن الأرض تلعب دورًا محوريًا في كلتا القصيدتين، رغم اختلاف السياق الزمني والجغرافي.
ففي قصيدة آتوود، تمثل الأرض مساحة من العزلة، حيث لا تُظهر أي تفاعل مع آلام البشر ومعاناتهم. هي ببساطة تدور في دورة أبدية، غير مبالية، لتُعبّر عن فقدان الأمل والشعور بالتهميش.
أما في قصيدة سعيد، فالملجأ، الذي كان من المفترض أن يكون مكانًا للحماية، يُظهر تحولًا كارثيًا حيث يصبح رمزًا للدمار والموت.
الأرض في نص سعيد تتعامل مع البشر كضحايا للحروب، إذ تختلط الرماد والدم ليصبحا جزءًا من هوية المكان، مما يعكس حقيقة مُرّة عن آثار الحروب على الفرد والمجتمع.
من الناحية البلاغية، تستخدم آتوود أسلوبًا رمزيًا قويًا يعتمد على التكرار وتكرار الصور الغامضة التي تخلق أجواءً من الضياع والمجهول.
أما سعيد فيعتمد على الصور الحسية التي تُظهر الواقع بشكل مباشر، مما يعزز من الانطباع بالقسوة والعنف في صورته الشعرية.
في قصيدة آتوود، تأتي الأرض ككائن حيّ يدور بلا توقف، متجاهلة كل ما يحدث للبشر، بينما في قصيدة سعيد، تتحول الأرض إلى فخٍ قاتل، يتناثر فيها الدمار على شكل صور مأساوية.
يُظهر شعر كل من آتوود وسعيد تأثيرات البيئة السياسية والاجتماعية التي نشآ فيها. في شعر آتوود، نجد تأثيرات الحياة الكندية والتساؤلات عن الهوية وعلاقة الفرد بالمجتمع في زمن التغيرات الاجتماعية والثقافية.
أما في شعر سعيد، فتعكس القصائد التأثير العميق للصراعات السياسية والحروب التي تعرض لها العراق والمنطقة العربية.
في قصيدتي حميد سعيد وآتوود، نلاحظ تشابهًا في استخدام الأرض كمكان للمعاناة وللتعبير عن الظلم الذي يعصف بالشعوب.
في “ملجأ العامرية”، يُظهر سعيد كيف أن الأرض قد تحولت إلى مصدر للخراب والنار، حيث “ملجأ العامرية” ليس فقط ملجأ للحماية، بل مكان يتحول فيه الإنسان إلى فريسة لأهواء القوى المهيمنة.
نجد في النص دلالات رمزية قوية: “كُحلُها من رمادِ مَلجَأِ العامريَّةِ” حيث تختلط الألوان السوداء والدماء، مما يعكس عمق الكارثة. الأرض، التي كانت دائمًا رمزًا للخصب والحياة، أصبحت الآن مجرد مكان للدمار والموت.
ويعكس كلا الشاعرين في قصيدتيهما، رؤية مأساوية للوجود البشري في ظل الحروب والظلم. سعيد يصور الأرض كرمز للخراب والنار، في حين أن آتوود تستخدمها كرمز للتجاهل المستمر، حيث تظل الأرض تدور بغض النظر عن معاناة الشعوب، لكن الفرق بين النصين يكمن في الأسلوب الرمزي، ففي قصيدة آتوود يتم التركيز على الإحساس بالاستبعاد والعزلة، بينما في قصيدة سعيد يظهر التحول الكارثي للأرض إلى مكان للفقد، وهو ما يخلق صورة أقوى للدمار المادي والروحي.
في نهاية المطاف، يظهر الشعر كأداة فاعلة تتجاوز حدود الثقافات والجغرافيا ليعكس هموم الإنسان في مواجهة الموت، الحرب، والعزلة.
وعلى الرغم من اختلاف السياقات الثقافية والتاريخية بين الشرق والغرب، فإن الشاعرين آتوود وسعيد يتقاسمان هاجسًا إنسانيًا مشتركًا: الرفض العميق للظلم والحروب، والبحث المستمر عن الحرية.
الشعر هنا لا يقتصر على كونه مجرد كلمات، بل هو لغة تجمع بين الشعوب في سعيها نحو التحرر. ويظل الشعر جسرًا يتجاوز الفوارق ويعبّر عن القضايا الإنسانية التي لا تندثر، منبعًا من الوجدان البشري الذي يرفض الاستسلام للواقع المظلم.
لهيب عبدالخالق
شاعرة وكاتبة عراقية مقيمة في كندا