في غزة يستشهد الصحافيين وأعينهم مفتوحة على المشهد الأخير، يسرقون من الموت صورة، قبل أن يمد يده اليهم.
أنس الشريف ومحمد قريقع صار حضورهما مألوفًا كوجوه الأطفال الملطخة بالدماء، لم أكن أعرف أن الشاشة يمكنها أن تخترق كياني وأن وجوه الأطفال الجياع وهم يصارعون الموت يمكنها أن تغادر عقلي ووجداني.
أنس الشريف و محمد قريقع لم تكونا غريبين عني، كنتما دوماً أمامي، مناشدتكم لضمير العالم تتردد في أذني في الصباح والمساء، تقاومان كما يمسك المقاوم بندقيته والخطر يداهمه بلا هوادة، تنقلان وأنتما تحت القصف الشديد صور الجرائم البشعة من قتل وتدمير، وأنين الأطفال الجياع والجرحى وبكاء الأمهات، لقد كنتما شاهدان على الأرض التي احتضنت المقابر الجماعية والتي أصبحت أوسع من الصدر وأضيق من الحلم، ووقفتما في طوابير الخبز والماء لكن أصواتكما ظلت ثابتة لا ترتجف إلا من هول المشهد.
في غزة، االكاميرا أثقل وأقسى من البندقية، لأن من يمسكها يعرف أنه ربما لن يعود.
أنس ومحمد، لقد كانت الصحافة عندكما موعدًا مؤجلًا مع الشهادة، وربما كنتما تعرفان أن الصورة الأخيرة ستلتقطها يد عدوٍّ يريد أن يخفي عن العالم هول جرائمه، لم تكونا مجرد صحفيين يمرّان على شريط الأخبار، كنتما شهودًا على زمن مأساة لن ينساها التاريخ ، توثقان الحقيقة لتحفظانها من الضياع حين يحاول القاتل محو كل أثر.
كنت أرى في عيونكما وهجًا يشبه النار التي تتحدى الريح، تمضيان بلا تردد وبلا أخذ بعين الإعتبار فكرة النجاة، لم تكن مهنتكم مجرد عمل بل وصية تُحمّل صاحبها ثمنًا يعرفه منذ اللحظة الأولى: أن يقف وجهًا لوجه أمام القاتل لينقل الحقيقة إلى العالم، رأيناكما في المشاهد التي يهرب منها الجميع ، في الشوارع المنكوبة والمنازل المدمرة المهجورة التي تفوح منها رائحة الموت.
أنس ومحمد وكل من غادروا قبلكم ومعكم من صحافيين ومصورين، رحيلكما امتدادًا لطريق بدأتماه منذ اللحظة الأولى لأنكما كنتما تدركان أن الصحافة في فلسطين طريق بلا عودة إلا نحو الخلود.
اليوم، أنتما لستما بيننا، لكن أصواتكما تخترق ضمير العالم باقية في الذاكرة ، أصواتكما ما زالت تتردد وتهمس بأن الحقيقة أقوى من قذيفة الموت.
رحلتما إلى بيت الخلود لتكونا إلى جانب حراس الحقيقة، تحملان الخبر من وسط الموت الذي لم نستطع نحن أن نتحمله: أن الخذلان أكبر من القصف، وأن الصمت العربي أخطر من الرصاص، حيث تركناكم وحدكم في الميدان، اخترتم طريق الجنة، وقعتم صك الشهادة، انتظرتم دوركم، واليوم ارتقيتم إلى جناة الخلد.
سلامًا على شهداء الحقيقة، الذين علّمونا أن بسالة وشهادة الصحفي تنقل تاريخًا لا يُزوّر، تلتقط صور المأساة التي لن تنسى وستكون هي الشرارة لنهاية الاستبداد الصهيوني.
سلامًا عليكما وعلى كل صحفي أصرّ أن يروي الحقيقة وإن كانت نهايته، وكل يد رفعت الكاميرا في وجه القاتل،
سلاماً لكم يا من التحفتوا الأرض هانئين وغزةَ تحتكم وسادةُ دمٍ والكاميرا فوقَ صدوركم راية نصرٍ، وسلامٌ على الصوت الذي ما انحنى والكاميرا التي بكت بين أياديكم .
تركتم فينا جرحاً وفي حلوقنا نداءً بأن الكلمة حين تكتب بالدم لا تفنى ، وأن من بعدكم لن ينام القاتل آمناً، ففي كل مكان صوركم تنطق