قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته خلال المؤتمر الصحفي عقب القمة الروسية الأمريكية في ألاسكا إنه من المهم والضروري لروسيا والولايات المتحدة طي صفحة الماضي والتعاون الثنائي.
وأعاد الرئيس بوتين إلى الذاكرة اتصالاته الأخيرة، عام 2022، مع الإدارة السابقة، حيث تابع: “حاولت إقناع زميلي الأمريكي السابق بأنه لا داعي لتصعيد الأمور إلى وضع قد يؤدي إلى عواقب وخيمة في شكل عمل عسكري. وقلت حينها إن ذلك كان ليكون خطأ فادحا. اليوم، نستمع إلى الرئيس ترامب وهو يقول إنه لو كان حينها رئيسا لما اندلعت الحرب. وأنا أعتقد في ذلك بالفعل وأؤكد عليه”.
التقط ذلك التصريح الرئيس الأمريكي ترامب في لقاء تلفزيوني له عقد في مقر انعقاد القمة عقب المؤتمر الصحفي، وأعاد اقتباس مقولة بوتين الذي أكد على كلماته التي كررها مرارا وتكرارا.
أكد الرئيس بوتين كذلك على أن الأحداث في أوكرانيا هي “مأساة وألم كبير”، لأن الشعب الأوكراني هو شعب شقيق، مهما بدا ذلك غريبا في ظل الظروف الراهنة. وتابع: “جذورنا واحدة، ونحن مهتمون بوضع حد لما يحدث”.
لكن روسيا، في الوقت نفسه، وكما قال الرئيس، مقتنعة بأن التسوية المستدامة للأزمة الأوكرانية تقتضي القضاء على جميع الأسباب الجذرية للأزمة، والتي نوقشت مرارا وتكرارا، ويتعين مراعاة جميع المخاوف المشروعة لروسيا واستعادة التوازن الأمني العادل في أوروبا والعالم أجمع.
يجب أيضا أن نعيد إلى الأذهان أن أهداف العملية العسكرية الخاصة، والتي أعتقد أن الفريق المفاوض في ألاسكا إلى جانب الرئيس (وزير الخارجية سيرغي لافروف ومساعد الرئيس يوري أوشاكوف) قد أوضحها للرئيس ترامب، تتجسد في إزالة التهديد الوجودي لروسيا المتمثل في تمدد “الناتو” واعتباره روسيا “عدوا استراتيجيا”، وهو ما يتحقق بالوضع الحيادي لأوكرانيا ونزع سلاحها واجتثاث النازية الموجهة مع سبق الإصرار والترصد ضد كل ما هو روسي.
كان الهدف الأساسي لـ “الناتو” حتى وقت قريب هو “هزيمة روسيا استراتيجيا في أرض المعركة”، ثم أصبح هذا الهدف اليوم هو “وقف تقدم القوات الروسية بأي ثمن”، بينما توهم حكومات ومسؤولو الدول الأوروبية شعوبها بأن الخطر الذي يواجهها لا يتمثل في الأزمات الاقتصادية والركود والتضخم الناجم عن سياسات رعناء استغنت عن موارد الطاقة الروسية لحساب موارد أخرى بأضعاف التكلفة ما أسفر عن الأزمة الاقتصادية، وإنما يتمثل في “العدو الروسي المرعب” و”الخطر المحتمل” من “غزو روسيا لأوروبا”.
وقد كررت روسيا وأكدت بالفعل قبل القول بأنه لا نية لديها مطلقا على “التمدد” غربا بعكس “الناتو” الذي تمدد شرقا على موجات، ووصل إلى أوكرانيا، التي سبق وحذرت روسيا (في 2007) من أنها خط أحمر.
اليوم وبعد هزيمة مخطط “الناتو” على الأرض عسكريا واقتصاديا وإعلاميا، وبعد فشله في زعزعة الاستقرار الداخلي لروسيا، وخلخلة العلاقات الروسية مع حلفائها، حدث العكس تماما، بينما نجحت روسيا في تعزيز مكانتها وتوسيع نطاق تعاونها الدولي مع كوريا الشمالية ومع إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأكدت روسيا مكانتها كقوة نووية عظمى لتجلس بندية مع القوة النووية العظمى الأخرى الولايات المتحدة، بينما يفقد المجتمع الدولي الحقيقي ثقته بمن يدعون أنهم يمثلون “المجتمع الدولي”، ويعجزون في ذات الوقت عن فعل أي شيء أمام ما يحدث في غزة على سبيل المثال لا الحصر.
أقول إن الثقة اليوم تتعزز بمجموعة “بريكس” وبمنظمات “آسيان” و”شنغهاي للتعاون”، بينما يتجه العالم اليوم إلى التخلص من الدولار الأمريكي الذي يمثل العنصر الأكبر للهيمنة الأمريكية التي تندحر بمرور الوقت، على وقع انتقال العالم إلى التعددية القطبية كعملية تاريخية موضوعية لا رجعة فيها.
أعتقد أن ترامب قد بدأ يشعر بذلك، وأعتقد أيضا أن من تورطوا بالمغامرة الأوكرانية الفاشلة يستوعبون ذلك مع الوقت، والاستمرار في هذا المخطط الفاشل، ومحاولة “إنعاش” الجثة الأوكرانية لن يؤدي سوى إلى هزيمة تاريخية سيتحمل الجميع مسؤوليتها وتبعاتها تاريخيا.
لقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على اتفاقه مع نظيره الرئيس ترامب على ضرورة ضمان أمن أوكرانيا أيضا، وأعرب عن استعداده للعمل على ذلك، وعن أمله في إمكانية التفاهم بشأن تحقيق هذا الهدف وفتح الطريق أمام السلام في أوكرانيا.
كذلك أكد ترامب، عقب اللقاء، على أن التوصل إلى سلام مستدام أفضل من التوصل إلى وقف إطلاق نار مؤقت. وهو ما ترفضه روسيا شكلا وموضوعا لما يعنيه ذلك من منح الفرصة لأوروبا وأوكرانيا لإعادة التسلح والتقاط الأنفاس للعودة إلى القتال في وقت لاحق بشراسة أكبر. وما يعنيه أيضا من دخول قوات من “الناتو” إلى الأراضي الأوكرانية تحت مسمى “قوات حفظ السلام”، وهو ما يهدد بعواقب أكثر كارثية من الصراع الدائر حاليا.
لا بد من الاعتراف أن اللقاء لم يكن كما كان متوقعا، بمعنى أن يبدأ بلقاء منفرد للزعيمين ثم ينضم إليهم بقية أعضاء الوفد، حيث بدأ اللقاء بلقاء في صيغة 3+3، حيث شارك فيه الرئيسان إضافة إلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ومساعد الرئيس يوري أوشاكوف، ووزير الخارجية الأمريكية ومستشار الأمن القومي ماركو روبيو ومبعوث الرئيس ستيف ويتكوف. أعقب ذلك مؤتمر صحفي.
بمعنى أن هناك من وضع لترامب العقدة في المنشار، بوضع أوكرانيا المحك الرئيسي، الذي على أساسه ستستمر المفاوضات حتى ساعة متأخرة أم لا. وبما أنه لم يتم التوصل ولم يكن من الممكن التوصل إلى اتفاق بشأن أوكرانيا، حيث لا زالت المواقف متباعدة بين الأطراف، لم يتم استكمال الملفات الأخرى على أهميتها، فيما يخص العلاقات الروسية الأمريكية على مستوى الاقتصاد وعلى مستوى التعاون في القطب الشمالي والشرق الروسي والغرب الأمريكي وغيرها من الملفات الدولية، بما في ذلك الملف الإيراني وملف القوقاز وملف الشرق الأوسط وغيرها من الملفات التي تتقاطع فيها العلاقات والمصالح الروسية والأمريكية.
عاد ترامب إلى أوروبا وإلى أوكرانيا، ووعد بأن يستقبل زيلينسكي في المكتب البيضاوي الاثنين المقبل، لنرى ما يمكن أن تسفر عنه هذه المقابلة.
لكن أمرا لا يمكن إنكاره هو أن قمة ألاسكا حركت المياه الراكدة في العلاقات الروسية الأمريكية، ودفنت فكرة العزلة الروسية مرة واحدة وللأبد.