رامي الشاعر يكتب.. الدولة الفلسطينية قائمة شاء من شاء وأبى من أبى
من غياهب الأحلام والتخاريف خرج علينا الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم أمس بتصريح مفاده أن بإمكان الولايات المتحدة الأمريكية دعم أوكرانيا وإسرائيل في الوقت نفسه، فضلا عن “ضمان الأمن الدولي”!
وعلى الرغم من قلق البنتاغون إزاء إمكانية ظهور شح في الذخيرة نتيجة دعم واشنطن لجبهتي الحرب بالوكالة في أوكرانيا وإسرائيل، واحتياج الجبهتين إلى أنواع مختلفة من الذخيرة، فلا يزال مستشار بايدن لشؤون الأمن القومي جيك ساليفان يؤكد على “قدرة واشنطن دعم أوكرانيا والحلفاء في آسيا ومساعدة إسرائيل في آن واحد”.
يأتي ذلك بالتزامن مع تقارير تؤكد أن حلف “الناتو” يواجه موقفا صعبا، وربما لا يملك الأموال والمعدات الكافية لدعم أوكرانيا وإسرائيل في آن واحد، ناهيك عما صرحت به لجنة تابعة للكونغرس الأمريكي بأن الولايات المتحدة على استعداد لخوض غمار حربين متزامنتين مع كل من روسيا والصين، بما في ذلك الأخذ بعين الاعتبار خيار المواجهة النووية.
كان رد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحا وحاسما، حيث قال إنه في حالة حدوث صراع ساخن بين الغرب وروسيا، فلن يقتصر الأمر على “عملية عسكرية خاصة”، وإنما سوف تكون “حربا مختلفة تماما”، مؤكدا أن روسيا إنما تنطلق من حقيقة أنها تريد السلام، إلا أن من يريد القتال مع روسيا، فتلك طبيعة مختلفة تماما للحرب.
إن ما يخرّف به بايدن وفريقه وحلفاؤه يؤكد أن أحدا منهم لم يفهم جيداً قانون نيوتن الثالث للحركة: “لكل فعل رد فعل، مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه”. ومن يندهش لما حدث في غزة خلال الأسبوع الماضي أيضاً لم يدرك معنى هذا القانون الذي يحرك الكون بأسره، ومن كان ينتظر أن يتلقى الفلسطينيون الضربات تلو الضربات، ويتم قتلهم على الهوية، وانتزاع أراضيهم، وماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم، تؤكد له الأيام خطأ ذلك التصور والموقف والمدخل لتسوية القضية الفلسطينية.
ولا زال بايدن يهذي بأن لدى الولايات المتحدة الأمريكية “فرصا هائلة لجعل العالم أفضل”، وعلى الرغم من فشل الهجوم الأوكراني المضاد، وهزيمة “الناتو” في أوكرانيا، ووقوفها الآن على حافة الانهيار التام للاقتصاد والجيش واختفائها من الوجود كدولة موحدة ذات سيادة، لا زال الرئيس الأمريكي يقول إن الولايات المتحدة “إذا ما تمكنت من توحيد أوروبا ووضع حد لبوتين، بحيث لا يتمكن في التسبب في هذا النوع من المشكلات التي يسببها” فسوف يجعل ذلك العالم مكاناً أفضل.
إن بايدن يطمح لتنفيذ خطة سلفه الأحمق ترامب، الذي قرر تنفيذ المخطط الصهيوني “صفقة القرن”، الذي يجعل من القدس كاملة عاصمة ويضم الجولان السورية لإسرائيل. فأي عبث وأي حماقة. ومن عساه من الفلسطينيين أن يقبل ذلك.
إن ما قامت به المقاومة الفلسطينية بقيادة “حماس” هي ضربة استباقية لكل المخططات الصهيونية الخبيثة التي تضرب في مقتل مبدأ “الأرض مقابل السلام” وكافة المبادرات التي سعت لتسوية القضية الفلسطينية على نحو عادل وشامل انطلاقا من مقررات الشرعية الدولية، دفاعا عن الحق الشرعي للفلسطينيين في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس.
لقد بذلنا كل ما أوتينا من قوة لضبط النفس والتعامل مع العدو الصهيوني المحتل بوصفه “شريكاً” في دولة مجاورة، بعد كل المجازر التي ارتكبها بحق شعبنا الفلسطيني، وتجاوزنا كثيراً من الجراح والآلام من أجل السلام، ومن أجل التعايش، ومن أجل الحياة، إلا أن التطرف الإسرائيلي لا حدود له، ويمعن في مزيد من الانتهاكات والعنف والقتل وإزكاء دائرة العنف حتى تستمر وتشتعل أكثر، وهو ما يهدد لا غزة وحدها، وإنما، وكما رأينا، إسرائيل أيضاً.
وحقا قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تصريحاته التي بثها التلفزيون خلال اجتماعه بوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يوم أول أمس الأحد، إنه مواطن مصري نشأ في حي جنبا إلى جنب مع اليهود في مصر ولم يتعرضوا لأي شكل من أشكال القمع أو الاستهداف، مضيفا أنه لم يحدث في المنطقة العربية أي استهداف لليهود على مدار التاريخ القديم والحديث. لكن اليهود استهدفوا فقط في الدول الأوروبية.
وما نراه اليوم من رد فعل الإسرائيلي المتطرف، والذي لا يوازي بأي حال من الأحوال فعل المقاومة، لن يخلّف سوى مزيدا من الأحقاد والعنف وسفك الدماء.
ولن يكون هذا، مع الأسف الشديد، في إسرائيل وحدها، بل نراه اليوم يمتد بشكل من الأشكال إلى مناطق أخرى من العالم، وهذا هو الخطر العظيم الذي يهددنا جميعاً. فالذئاب المنفردة في جميع أنحاء العالم قادرة على أن تجعل من الحياة في أي مكان على وجه البسيطة مأساة مستمرة، وقلقاً مستداماً.
كما أن قدرة إسرائيل على الاستمرار في المنطقة، التي يقطنها أغلبية من العرب، لن تمتد إلى ما لا نهاية، ولن تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية ولا أي قوة على وجه الأرض توفير الحماية لها إلى الأبد، لا سيما أن الولايات المتحدة تستعد لصراع مع الصين، وتمول صراعاً في أوكرانيا.
لقد أكد الرئيس السيسي كذلك على الحاجة إلى التحرك بقوة وبعزم لخفض التوتر وتيسير دخول المساعدات لقطاع غزة المحاصر دون مياه أو كهرباء أو وقود، مشددا على ضرورة الاستماع للمعنيين بالقضية والعالمين بأسباب الأزمة، مؤكدا أن مصر تبذل أقصى جهدها لاحتواء الموقف ولعدم دخول أطراف أخرى في الصراع. وهذا هو لب المسألة “دخول أطراف أخرى في الصراع”، وتحوّله إلى حرب عالمية ثالثة.
والفكرة الإسرائيلية الحمقاء بشأن تهجير سكان غزة إلى صحراء سيناء، والتي يعترف بها مسؤولون إسرائيليون جهاراً نهاراً، في محاولة لتصفية حركة “حماس”، ليست أكثر من سذاجة وبلاهة سياسية وعجز عن قراءة التاريخ القريب في أفغانستان. فهل إسرائيل أقوى من الولايات المتحدة وحلفائها الذين حاولوا لعشرين عاماً القضاء على طالبان، ولم ينجحوا؟!
إن القضاء على المقاومة المسلحة أيا كان موقعك يتعلق بالبحث عن جوهر الأزمة، ويتعلق بعلاج المرض وليس العرض. أما البحث عن قادة هنا وهناك لحماس، وبنى تحتية هنا وهناك، وصواريخ، وذخائر، لن يجلب سوى مزيداً من الدمار والقتل والعنف المتبادل.
إن تصفية القضية الفلسطينية سواء من خلال “صفقة القرن”، ومن خلال صفقات السلام الأحادية مع بعض الدول العربية، أو من خلال تهجير سكان غزة إلى سيناء، لن يحل القضية الفلسطينية، ولن يجتث أصول العنف، ولن يكسر الدائرة المفرغة للصراع العربي الإسرائيلي، والحل الوحيد القادر على استهداف هذه الأزمة في جوهرها هو بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وفقا لمقررات الشرعية الدولية.
الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر