عالية الشاعر تكتب.. رومانسيون أم إرهابيون؟
ربما يبدو هذا العنوان الذي يتخذ سمة المقارنة غريباً للقارئ، نعم ثمة جدلية علاقة خفية بين (المصطلحين) يُجيزها ترابط بين مدركين لاقترانهما في الذهن بسبب يصعب تفسيره و سبر كهنه، كان ينتابنا إحساس بتدافع وصراع يغلي ويمور غضباً وغيظاً في عقولنا، لنعاني من حُمَّى التوتر وطأتها ثقيلة على الأبدان نتيجة الإحباط والاكتئاب الذي يسببه القلق المتواتر لما يجري من أحداث مأساوية نصحو وننام على وقعها، فلا نكاد نلتقط أنفاسنا من نبأ مرّوع حتى يصدمنا خبر مفجع ينزل على رؤوسنا كمطرقةٍ يرتّدُ ضجيجها ألماً يتغلل في أنفسنا التي تخدّرت بالقهر وهدّها الشعور بالعجز كمتفرجين لا نملكُ الحل.
نعم نحن نعيش حالة من الغليان السلبي أو الرومانسية الثورية المعطّلة الفاعلية في بلدان تعاني تقهقراً سياسياً إقتصادياً وتخلخلاً إجتماعياً، مع هذه الظروف التي تتلاطم فيها مشاعرنا وانفعالاتنا كأمواج في بحر لُجِّيٍّ شُدّت واستُنفرت أعصابنا الى حدها الأقصى، لنصاب بعدوىٰ هدوء رد الفعل العكسي كأن نرتشف فنجان من القهوة متابعين على الشاشات أفظع المشاهد من الدمار الهائل والإبادة الجماعية لأهلنا في غزة، أما الناجون فباتوا يتعرضون على مدار الساعة للكَيّ النفسي تتبخر معه الأمنيات، بالرغم من ذلك مازالوا يرنون أن تُفتح بوابة الفرج على مِصْرَاعَيْهَا للعبور إلى الأمل المنشود، كذلك لا نغفل عن ذكر الاعتقالات والقتل اليومي لشبابنا المقاومين في الضفة الغربية، أجل نحن نعيش في عصرٍ أحد أخطر مظاهره سباق التسّلح والطغيان الذي يرىٰ عتاته أن من حقهم السيادة و السيطرة والهيمنة على الشعوب المستضعفة بقبضات حديدية تقطر منها دماء الأبرياء.
عوداً على بدء لتوكيد التقارب بين المصطلحين لابد من استحضار بإيجاز قصة من التاريخ بطلها رجلاً خارق القوة إسمه شمشون يبجّلهُ اليهود ويعتبرونه خير وريث لقوة الإله الذي يسمونه (يَهوَه أو ياهو) أحب شمشون الجبار فتاة فلسطينية حباً وصل حد الوله إسمها دليلة، كانت قبيلتها تتصارع مع قبيلتهِ على الكلأ والماء في زمنٍ كان أفراد الأخيرة من بني إسرائيل يهوداً بالدين شركاء مواطنين في أرض كنعان سرمدية الخلود ، في فورات غضبه الجامح كان شمشون يحرق حقول الفلسطينيين ويقتل رجالهم في غزه وعسقلان ، اكتشفت دليلة أن سر قوة شمشون تكمن في شعره المُنسدل على كتفيه وهو الذي قتل أسداً وشقّهُ الى نصفين ويذود عن قبيلته بما يعادل المئات من الرجال.. في ليلةٍ مُدْلهِمّة قامت دليلة بجزّ شعره وهو نائم في حجرها عندها فقط تمكنوا من أسره، مضت بضع سنين حتى طال شعره واستردَّ قواه، وجاء انتقامه قاسياً قاضياً وهو الذي أضمر سَخطاً وحقداً عميقين ودخل معبداً يسمى داجون يعجُّ بالمئات من الفلسطينيين وأمسك بيديه الجبارتين أعمدة المعبد وهزها مزلزلاً أركانهُ حتى دمرهُ تدميراً كاملاً، وهتف قبل موته بعبارته الشهيرة عبر القرون (علي وعلى أعدائي يا رب) وهكذا أخذ بثأره من حبيبته وقبيلتها وكان أول ضحية لرومانسيته التي انقلبت من نزعة العاطفة المفرطة إلى نزعة العدوانية المطلقة، ولربما أصبح أول إرهابي في التاريخ يرتكب مجزرة جماعية على مستوى فردي.
فما بالكم بالمحامية هنادي جرادات التي قامت بعملية استشهادية في حيفا ومثلها عدد ليس بالقليل بين الرجال والنساء لكن أخصُّ هنادي بالذكر كونها مارست مهنتها كمحامية مدافعةً عن الحق ومع ذلك قررت وقامت بتنفيذ العملية مُزَمَّلةً مُحزَّمةً بالعقيدة والإيمان بقوة الحق بعد أن شاهدت مقتل شقيقها وابن عمها والبعض من أقاربها من دون أي ذنب ارتكبوه، هنا يصبح الأخذ بالثأر مطلباً وجدانياً مُلحّاً ومرؤة أخلاقية، بل تتويجاً لمعاناة نفسية تُصَّعد درجة الإحتجاج والرفض للباطل إلى ذروتها بسبب العجز عن إيقاف الظلم بالعقل المُدرك عندئذ يغلب منطق الموت المُستَعذَب على التردد والخوف المُستَغرب مما يفسح المجال لتناوله كظاهرة سيكولوجية حسنة النوايا نبيلة المبتغى محكومة بغريزة الانتقام المشروع ضد الظلم بكافة الطرق والوسائل لاسيما أن لوك وهتك كرامة وإعدام الإنسان يتعرَّض لها الفلسطينيون بشكل ممنهج على مدى سنوات طويلة، أما عن التنكيل المعنوي وكذلك المادي الذي يطال المُمتلكات كهدم البيوت وقطع الأشجار ومعها الأرزاق والاعتداءات اليومية من قبل المستوطنين الإسرائيليين فلا تتسع لها الكلمات، كمحصلة نهائية يصبح الإقدام على العمليات الاستشهادية ضرورة حتمية مكتملة الشرعية وليس خياراً مشروطاً، بناءً على ذلك يوجد فرق شاسع بين أن يكون الإنسان مفطوراً على الإرهاب كما يسمونه وبين أن يُدفع اليه قَسْرًا نتيجة التعرض اليومي لضغوطات يصعب وصفها ويستحيل احتمالها.
إذا أقررنا بالهولوكوست (المحرقة النازية ضد اليهود) وهذا ما تمليه الموضوعية نستنتج بديهياً أن الأسرى والقتلى المدنيين من الإسرائيليين سابقاً ولاحقاً هم ضحايا الهولوكوست الصهيوني الذي يمارس على الفلسطينيين، هذا الإرهاب الصهيوني كَرَّسَ منهجاً مؤسساتياً متمثلاً بالحكومات المتتالية التي وإن تفاوتت النسب في عُنصريتها الا أن سياستها وممارساتها تبقى متفقة ومتوافقة على ضرورة إذلال الفلسطينيين وقمعهم، إن العقلية العنجهية المُشَبَّعة والمترنحة غروراً بعقدة التفوق للمتحكمين في هذا الكيان ، نكست فينا فطرة السلام وعكَّرت فكرة الاعتقاد بإمكانية التعايش المشترك بين الشعبين بل دفنت هذه الأمنية في قلوب مريديها إلى أجل غير مسمى، فالتواتر القهري يولد انفجاراً هستيرياً بربرياً همجياً متهوراً سموهَ كيفما شئتم، فالمسميات التي يطلقها أعداء الإنسانية الذين يدَّعون الحضارة ويعتبرونها حكراً لهم وعولمتهم المرقطّة بفوقية متبجحة تبث السموم كما الثعابين وتفوح منها رائحة العنصرية النتنه،هذه العولمة الزائفة المزدوجة المعايير تلطّخت بألوان الكذب والخداع والنفاق والاستخفاف بأرواح البشر الذين لا يناسبون اهوائهم الفاجرة الماجنة كل هذه المعايير لا يملك مبتدعيها أحقيةً في التنصيف والفرز لأنها تتنافى مع القيم الإنسانية، فالحقوق مُغيبة بشكل فاضح لا يختلف عليه اثنان إلا لمن يروق لهم أن يطغوا في الميزان، ومسألة أن نكون إرهابيين أو مسالمين تحسمها النواميس والقوانين الإلهية التي أتت بالعدالة المطلقة.
حَبَّذا لو ننظر الى المشهد الفلسطيني بشكل متكامل غير مجتزأ لندرك حجم الكارثة بدءً بعبرنة أسماء المدن والقرى حتى أن السرقة تطال الفلكلور (الموروث الشعبي) على مستوى فن التطريز والأكلات التي ينسبونها الى تراثهم، أما بما يخص الأسماء فأم الرشراش أضحت إيلات وتل الربيع سميت بتل أبيب والضفة الغربية يُشار إليها على أنها (يهودا والسامرة) والقائمة تطول، وفلسطين تتقلص تدريجياً، وهذا ما يؤكده بناء جدار ليس فقط للفصل العنصري بل الإحتلال التوسعي لأنه في حقيقة الأمر قضم و اِلْتَهَمَ آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية الخصبة وابتلع الكثير من الأمتار المكعبة للمياه وبات هذا الجدار المُرسّم الحقيقي لخارطة مقطعي الطرق الى فروع ثعبانية الالتفاف يصعب معها تصور كيف ستكون عليه الدولة الفلسطينية المقبلة ومن طاماته أيضا انه يعزز في اذهان المتعصبين الصهاينة (وهم كثر) فكرة كوننا (ما مزير) أي زنادقة أولاد غير شرعيين لهذه الأرض يحق تهجيرهم وإذاقتهم طعم الدياسبورا (الشتات)ليس فقط خارج وطنهم بل في داخله أيضا.
قبل الختام، آيات من الحب الوفاء موصومة بالتبجيل لكل الشهداء الأبرار في أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج وللمقاومين الأبطال هؤلاء الرومانسيون النبلاء قولاً وفعلاً، الذين شبّوا وشبَّ الوطن معشوقاً في كيانهم فعرفوا معنى الفداء وحولوا مفهوم الجهاد الذي وردَ ذكره في آيات القرآن الكريم من وحي في الكتاب المسطور إلى فعلٍ منظور، لتنعم أمتنا بمواسم الخير قطافها مثمراً بسخاء وتعيش أجيالنا الآنية والآتية بازدهار مورقاً بالسلام والرخاء.
تحية مدموغة بالامتنان والعرفان الى جنوب أفريقيا ممثلة بقائدها الفذّ نيلسون مانديلا الذي كان شديد التواضع مع شعبه مستكبراً متعالياً على الاستعمار، مانديلا الذي جسَّدَ الأممية بأرقى معانيها عندما قال ” إن حريتنا كمواطني جنوب أفريقيا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين”.
ومن غابر الازمان تُهب علينا نسائم الحرية معطرة بذكر ىٰ أول ثائر خلدّهُ التاريخ ولد ومات قبل ظهور الأديان، كان سبارتاكوس عبداً مصارعاً قوي الشكيمة في زمن الإمبراطورية الرومانية وأصبح قائداً مُلهِماً عبر القرون لكل الثوار التواقين الى الحرية عندما قام هو ورفاقه بأول ثورة في التاريخ للافتكاك من ربقة الظلم والاستبداد واستعباد الإنسان لنظيره الانسان غير آبه بما يقال عنه اليوم موازين القوى (هذا لفت للإنتباه للذين وهم قلة بيننا يشككون في جدوى عملية طوفان الأقصى سواء عن قصد أو غير قصد، ولكن لا يحق لهم التشكيك بالنوايا) وجب علينا ذكر سبارتاكوس بعد مرور آلاف السنين لأنه واجه ورفاقه أقوى وأعتىٰ إمبراطورية عرفها التاريخ.. حقاً الأجساد تبلىٰ والأفكار النيّرة لا تفنىٰ.