رامي الشاعر يكتب.. بوتين يحذر وينبه ولم يهدد.. ويعتبر أن لروسيا عقيدة نووية تتعلق باحترام سيادة روسيا وسلامتها الإقليمية
بقلم د. رامي الشاعر
بعكس ما تناقلته وسائل الإعلام الغربية المختلفة صباح يوم أمس، والعناوين “الساخنة” التي خرجت بها معظم الصحف التي تتلقى وتتبنى الرواية الغربية للأحداث “لم يلوح” بوتين بالعصا النووية، ولا “هدد”، ولا حتى بادر بالحديث عن ذلك.
جاء السؤال من محررة الشؤون الخارجية بوكالة “رويترز” سامية نخول، التي طرحت سؤالها عما يمكن أن “يثير حربا نووية”، و”كم نحن قريبين من ذلك الخطر؟”. وكان رد بوتين شديد التوازن، حيث بدأ حديثه كالتالي: “يحاولون دائما اتهامنا بأننا (نلوح) بما يسمى (العصا النووية). فهل أنا الآن من طرح السؤال بشأن إمكانية استخدام السلاح النووي؟ أنتم من طرحتم هذا السؤال، تدفعونني للحديث عن هذه القضية، ثم تقولون فيما بعد إنني (ألوح بالعصا النووية)”.
وردا على هذا السؤال قال بوتين إن تلك القضية “صعبة للغاية”، وتابع: “الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية في الحرب العالمية الثانية: هيروشيما وناغازاكي (20 كيلو طن)”
وقال بوتين إن لروسيا عقيدة نووية محددة، “اقرأوها. إذا ما هدد أحد سيادتنا وسلامتنا الإقليمية، فإننا نعتبر أنه من الممكن لنا حينها استخدام جميع الوسائل المتاحة”، وأشار إلى أن تصريحات الساسة الغربيين بأن روسيا “ستهاجم الناتو”، فإنها مجرد “هراء”، وتابع: “لقد توصلوا إلى فكرة أن روسيا تريد مهاجمة الناتو، هل أنتم مجانين؟ ما جاء لكم بهذه الفكرة؟ أنتم حمقى مثل هذه الطاولة. إنه هراء”.
وأشار الرئيس إلى أن هناك حاجة أكبر لمثل هذه التصريحات من أجل “خداع المواطنين”، والحفاظ على الهيمنة الغربية.
لكن بوتين عاد وقال إن الأسلحة النووية التكتيكية الروسية يبلغ وزنها 70-75 كيلو طن، وقال: “دعونا لا نسمح لا فقط بالاستخدام، ولكن حتى للتهديد بالاستخدام”.
وبشأن توقف الحرب الأوكرانية، قال بوتين: “يجب أن يتوقف الغرب عن إمداد أوكرانيا بالسلاح، حينها ستتوقف الحرب خلال شهرين فقط”.
وردا على تصريح الرئيس الأمريكي جو بايدن بالسماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى لاستهداف الأراضي الروسية، ذكّر بوتين بأن من حق روسيا أيضا الرد على أي دولة تساهم في تسليح وتزويد أي طرف يستخدم السلاح ضد روسيا، والمقصود هنا بالدرجة الأولى الدول القريبة من الأراضي الروسية، في إشارة إلى فرنسا وألمانيا بالذات، حيث قال: “ماذا يجب أن نفعل ردا على الضربات التي تشنها الأسلحة الغربية على الأراضي الروسية؟
أولا: سنقوم بالطبع بتحسين أنظمة الدفاع الجوي لدينا،
ثانيا: نحن نفكر في مسألة أنه إذا كان هناك من يرى أنه من حقه توريد مثل هذه الأسلحة إلى منطقة قتال لضرب أراضينا وخلق مشكلات لنا، فلماذا لا يحق لنا أيضا توريد أسلحتنا من نفس النوع إلى تلك المناطق من العالم التي سيتم فيها شن هجمات على أهداف حساسة لتلك الدول التي تفعل ذلك ضد روسيا؟”، مؤكدا أن لدى الجميع “أهداف حساسة” يخافون عليها.
ثم قال: “ثالثا: ستكون مثل هذه الإجراءات نهائية، فقد وصل الأمر حتى الآن إلى أعلى درجات التدهور، لكن ذلك سيدمر العلاقات الدولية بالكامل ويقوض الأمن الدولي”.
خرجت علينا صباح أمس عناوين “نيويورك تايمز”: موسكو يمكن أن تستهدف دولا تمد أوكرانيا بالسلاح، و”واشنطن بوست”: بوتين يهدد – روسيا يمكن أن تسلح أعداء للدول الغربية التي تمد أوكرانيا بالسلاح بأسلحة بعيدة المدى، و”واشنطن بوست” أيضا: روسيا يمكن أن تستخدم السلاح النووي إذا ما شعرت بتهديد لسيادتها، و”بوليتيكو”: وزير الدفاع الألماني – لا بد أن تستعد ألمانيا للحرب بحلول عام 2029، و”بوليتيكو” أيضا: بيستوريوس (وزير الدفاع) – يجب ألا نصدق أن بوتين سيتوقف عند حدود أوكرانيا.
كالعادة، هستيريا غربية تضع الكلمات والعبارات في سياقات مختلفة، لتجعل روسيا مرة أخرى “تلوح بالعصا النووية”، و”تهدد أوروبا”، و”لن تتوقف عند حدود أوكرانيا”، بيد أن بوتين لم يهدد، لكنه حذّر، ونبّه زعماء “الناتو”، ودعاهم للتفكير العاقل الرشيد في مغبّة ما يفعلون وما يقدمون عليه من حماقات بالسماح للنظام النازي في كييف بضرب عمق الأراضي الروسية، مع العلم بأن أحدا في كييف لا يسيطر على أي من الأسلحة الحديثة بعيدة المدى التي بحوزتهم، بل يتحكم بها خبراء عسكريون غربيون، وتحركها المعلومات من الأقمار الصناعية للناتو، أي أن المسمى فقط أن مثل هذه الأسلحة تنطلق من الأراضي الأوكرانية، لكنها صناعة غربية، وتنطلق بعقول وحتى بأصابع غربية، ولا يد لأوكرانيا في هذا كله سوى الواجهة الخارجية لما يسمى “الحرب الروسية الأوكرانية”، بينما يعرف القاصي والداني أنها حرب غربية هجينة وساخنة ضد روسيا يديرها وينفذها الناتو بأياد أوكرانية.
لقد شارك كثير من الدول الغربية في الانقلاب غير الشرعي في كييف عام 2014، وكانت روسيا على علم بذلك، وهيأت تلك الدول أوكرانيا فيما بعد لخوض حرب ضد روسيا، وروسيا أيضا كانت على علم بأهداف ومجريات الحرب الإعلامية والاقتصادية الهجينة التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية وتوابعها بهدف زعزعة الأمن والاستقرار داخل روسيا. وبرغم ذلك لم تلجأ روسيا إلى استخدام نفس الأسلوب في العداء والتصعيد، بل لجأت إلى الصبر على أمل أن تعيد الولايات المتحدة والغرب النظر في سياساتهم العدائية ضد روسيا، والتفكير فيما يمكن أن يجلبه التعاون والتكامل والمشاركة في الاستثمار في الطاقة والتكنولوجيا والمعرفة والثقافة والفنون والموارد البشرية، لا سيما أنه كان بإمكان روسيا وأوروبا بل والولايات المتحدة أيضا الاستفادة من الخبرات والمعارف لدى الطرفين في هذه المجالات، لا سيما أن كل المحاولات الغربية فشلت في ما ظنوا أنه سيكون “ثورة” داخل المجتمع الروسي، وحدث عكس ذلك تماما، وحشدت تلك الحرب الهجينة المجتمع الروسي وراء قيادته، وأصبح أكثر تماسكا، وقفز الاقتصاد الروسي ليصبح في المرتبة الرابعة عالمياً.
لكني أتساءل وأدعو القارئ كي يبحث معي، هل يذكر أحد أن قامت روسيا يوما بتهديد دولة ما أو حتى استخدام العقوبات أو الحصار ضد دولة ما؟
إن روسيا غالباً ما تتخذ خطوات كهذه ردا على خطوات مماثلة من الدول الغربية، وفي كثير من الحالات تفعل ذلك أملاً في إعطاء المجال للطرف الآخر إعادة النظر في الإجراءات التي اتخذتها تلك الدول ضد روسيا. لهذا فإن الرئيس بوتين، وبعد أن تمت محاصرة روسيا وفرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ ضد أي دولة، لا يهدد، وإنما يحذر وينبه إلى ما تنزلق إليه الأمور، حتى يعيد بعض قادة الدول الغربية النظر في سعيهم إلى “هزيمة روسيا استراتيجياً”، ومحاولة “السيطرة عليها”، وأن يحاولوا رؤية العواقب المدمرة التي يمكن أن تلحق ببلادهم حال استمرارهم في هذه المحاولات الفاشلة.
لا شك أن مراجعة لقاء الرئيس بوتين مع الـ 16 صحفيا من وكالات الأنباء العالمية يوم أول أمس قد يعود بالفائدة عليهم، وألفت انتباههم إلى الثقة الراسخة للرئيس في إجاباته ومناقشاته وصراحته ودقة تعبيراته، والتي لا تتأتى إلا لزعيم واثق ليس فقط في نفسه وفي معرفته وبياناته وخبرته، ولكن وهو الأهم، في القاعدة الشعبية الصلبة التي تستند إليها شرعيته، والتي جاءت الانتخابات الرئاسية الأخيرة لتؤكد عليها بما لا يدع أدنى مجال لأي شك.
وأسأل، بهذه المناسبة، أي زعيم غربي من دول “العالم الديمقراطي الحر”، عما كان سيجيب وما كان سيفعل إذا ما كان في نفس الوضعية أمام هذا العدد من الصحفيين الأجانب. فهل كانت إجاباتهم ستكون بنفس المنطق والعقلية المستندة إلى الواقع الحقيقي على الأرض لا إلى النظريات والخطابات المكتوبة والقوالب الغربية المحفوظة.
على الغرب أن يتخلص وفوراً من أوهام الاستمرار في الهيمنة الأحادية على العالم، وضرورة تقبل التغيير الموضوعي الجاري نحو عالم التعددية القطبية، والتجاوب مع التطورات الجارية في العالم، لا سيما في الجنوب العالمي، من العالم الإسلامي والبلدان العربية وحتى إفريقيا وأمريكا اللاتينية وبلدان آسيا، وحتى في داخل الكثير من المجتمعات في أوروبا الغربية وداخل المجتمع الأمريكي، حيث بدأت الشعوب في الإحساس برياح التغيير.