بقلم الدكتور مصطفى الصبيحي
في العراق، حيث يختلط الدم بالحلم، والليل الطويل لا يعرف الصباح، رحلت الدكتورة بان زياد، الطبيبة النفسية التي كانت تمسك بأرواح الناس المنهكة لتمنحها شفاءً مؤقتًا من ثقل هذا الوطن. رحلت بطريقة غامضة، معلقة بين حكاية انتحار يصر البعض على ترديدها، وبين جريمة قتل صارخة لا تحتاج إلى كثير من الدلائل. وبين هذا وذاك، يقف العراق حائرًا: هل يودع طبيبته لسلام، أم يدفن معها الحقيقة كما اعتاد أن يفعل؟
بان لم تكن مجرد طبيبة نفسية تؤدي وظيفتها، كانت إنسانة تحمل وجع الناس وتستمع إليهم في صمت، وتعيد لهم بضع كلمات من الأمل الذي افتقدوه. كانت تعرف أن الجرح العراقي أعمق من أن يشفى بعلاج أو حبة دواء، ومع ذلك كانت تحاول، تصر أن الإنسان يستحق أن يعيش ولو على خيط رفيع من الرجاء. كانت تبتسم في وجه مرضاها، وهي تدرك أن بداخلها وجعًا أثقل، لكنها لم تسمح له أن يظهر. كانت تحلم بوطن لا يخذل أبناءه، فإذا بالوطن يخذلها أولًا.
يقولون إنها انتحرت… أي قلب يمكن أن يصدق أن امرأة وهبت حياتها لعلاج الانكسارات الداخلية، تستسلم فجأة لانكسارها؟ أي منطق يمكن أن يبتلع رواية الانتحار في ظل دلائل متشابكة تصرخ بغير ذلك؟ الحقيقة أن موت بان ليس موتًا عاديًا، بل هو موت مريب، موت مشبع بالغموض والدم، موت يشي بأن الأيادي التي أسكتت صوتها كانت أقوى من صبرها.
لقد تعبت بان من مواجهة قبح الواقع، لكن التعب لا يعني الانتحار، بل يعني أن هناك من أراد أن يسكتها، أن يطفئ نورها، أن يحولها من طبيبة تزرع الأمل إلى ضحية تدرج في سجل الموت المجاني. بان لم تختر الرحيل، بل فرض عليها.
أي جريمة أكبر من أن يقال عن المقتول ابه انتحر؟ إنها جريمة قتل مضاعفة، جريمة تمسخ الحقيقة وتشوه الذاكرة وتتركنا في حيرة، بين دموع على إنسانة بريئة وبين غضب على مجتمع يبرر للقتلة صمتًا أو تواطؤًا أو خوفًا.
إننا حين نكتب عن بان، لا نكتب فقط عن شخص رحل، بل نكتب عن جرح العراق المستمر، عن بلد يخسر أفضل ما لديه بلا حساب، عن وطن يخذل أطباءه، أساتذته، مثقفيه، نساءه ورجاله، ويتركهم نهبًا للموت، ثم يغطي كل ذلك بكلمة باردة: “انتحار”.
بان زياد رحلت، لكن رحيلها فضحنا جميعًا. فضح صمتنا، فضح عجزنا عن حماية امرأة كرست حياتها لمداواة الآخرين. رحيلها جعلنا نرى كم نحن محاصرون بالخوف، كم نحن مستسلمون لتبريرات باهتة لا تقنع حتى الأطفال.
سلام عليك يا بان، سلام على ابتسامتك التي قاومت الحزن، سلام على يديك اللتين حملتا أرواح الناس فلم تجدا من يحمل روحهما، سلام على اسمك الذي سيبقى شاهدًا على زمن قتل الأمل، زمن يسقط الضحايا على الأرض ثم يغطيهم بغطاء الانتحار. رحلت يا بان، لكنك لم ترحلي من قلوبنا، لأن كل من عرفك يعرف أنك لم تختاري النهاية، بل فرضت عليك، كما فُرض على العراق أن يبقى جريحًا لا يجد طبيبه.