أعلن السيد وزير الموارد المائية في العراق، الأسبوع الماضي، أن البلاد تمر بوضع مائي حرج بعد أن أوشكت مستويات الخزين المائي في جميع الخزانات على النفاد, وكذلك قرار الوزارة إلغاء زراعة الأراضي للموسم القادم بسبب شح المياه.
ورغم تأكيد الوزارة أن السبب الرئيس هو التغير المناخي وموجات الجفاف المستمرة منذ أربع سنوات، إلا أن العامل الحاسم وراء الشحة والتصحر هو بناء تركيا وإيران قرابة 100 سد ومحطة كهرومائية على منابع نهري دجلة والفرات وروافدهما، إضافة إلى حجب مياه روافد شط العرب، خلال العقود الأربعة الماضية، في انتهاك واضح لاتفاقية قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997. وقد تسبب ذلك في حجب نحو 75% من الوارد المائي السنوي والموجات الفيضانية التي كانت تصل لحوضي النهرين ضمن الأراضي العراقية.
ومن أسباب تفاقم أزمة المياه في العراق، خاصة في جنوب البلاد، فشل الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال في تطبيق إدارة مركزية متكاملة ورشيدة للمياه السطحية والجوفية، بما يشمل تقليل الهدر في الاستهلاك، ومنع تلوث نهري دجلة والفرات بمياه الصرف البلدية والزراعية والصناعية. فما زالت العاصمة بغداد مثلا تعتمد على محطتي معالجة مياه الصرف الصحي قديمتين: محطة الرصافة (1962) ومحطة الكرخ (1984)، بطاقة استيعابية لا تتجاوز نصف مليون م³/يوم، في حين يتم تصريف نحو 1.5 مليون م³/يوم من المياه الملوثة إلى نهر دجلة في بغداد ناهيك عن بقية المحافظات [1].
لقد أصبحت نوعية مياه نهري دجلة والفرات وسط وجنوب العراق بموجب البحوث المنشورة غير صالحة للاستخدامات البشرية بسبب ضعف الإجراءات لمنع التلوث من قبل الهيئات المعنية والتجاوز على الحصص المائية بين المحافظات، واستغلال المياه لمشاريع خاصة غير مرخصة، مثل بحيرات الأسماك ومشاريع زراعية تجارية خارج الخطة الرسمية وبدعم من جهات متنفذة. كما لم يتم تجهيز وتفعيل منظومات لتقنيات الري الحديثة وإعادة استخدام مياه الصرف والبزل المعالجة لاستخدامات محددة كما نصت الخطة الاستراتيجية لصيانة الأراضي والموارد المائية في العراق، يضاف إلى ذلك إهمال صيانة مشاريع الري الكبرى، بما فيها النهر الثالث الذي بواسطته يتم تصريف مياه البزل الزراعي إلى الأهوار، والتي لم يتبقَّ منها سوى 20% من مساحتها الاصلية [2].
كذلك تتعرض المياه الجوفية للاستنزاف الجائر بوجود أكثر من (85000) بئر المرخص منها (17000) بئر فقط وماتبقى غير مرخص [ 3]، بالرغم من ارتباط معظمها خزانات المياه الجوفية بالمياه السطحية، ما يؤدي إلى خفض مناسيب الأنهار وتدهور خصائصها الهيدرولوجية والبيئية، فضلًا عن فقدان صلاحية بعض خزانات المياه الجوفية للخزن مستقبلاً.
ان التقاعس في تنفيذ التشريعات والمشاريع التي تحمي الأمن المائي والزراعي والغذائي للعراق من مسؤولية الدولة المباشرة، التي تهدر مليارات الدولارات في صفقات فساد وتبييض اموال وفي مشاريع استهلاكية، بينما يواجه البلد مستقبلًا مظلمًا في مجالات المياه، الزراعة، الطاقة الكهربائية، تلوث البيئة وضعف الرعاية والخدمات الصحية.
ان إحدى أبرز المشكلات الهيكلية هي الإدارة اللامركزية وغير الفعالة للموارد المائية في العراق، وكذلك انعدام الكفاءة الفنية بسبب التغييرات المستمرة في الكوادر المتخصصة لأسباب سياسية. فبعد كل انتخابات، وضمن نظام المحاصصة الطائفية–العرقية يقوم كل وزير جديد بتعيين موالين له او من كتلته السياسية في المواقع المهمة في الوزارة، متجاوزًا شروط التخصص والتأهيل والخبرة، مما يفاقم مشاكل التخبط والفساد وإدارة ومتابعة تنفيذ المشاريع المطلوبة لتطوير عمل الوزارة.
وبناء” على ماورد فأن على عاتق مجلس الوزراء الحالي والسلطات التشريعية اتخاذ كافة الإجراءات والتدابير لتدارك النتائج المترتبة عن سوء إدارة الموارد المائية وتسارع تصحر الأراضي الزراعية في العراق من خلال تنفيذ جملة من الإجراءات، منها:
1. تشريع قانون لإنقاذ وصيانة وتنمية الموارد المائية في حوضي دجلة والفرات (أنهار، بحيرات، مياه جوفية، أهوار)، على أساس أن الدولة راعية الحق العام للمياه، وضمان حصص عادلة لكل منطقة ولكل استخدام (زراعي، صناعي، صحي…)، مع فرض عقوبات رادعة على المتجاوزين، تصل للسجن والغرامات المالية.
2. تشكيل “الهيئة العليا لإنقاذ وصيانة وتنمية حوضي دجلة والفرات” ترتبط برئيس الوزراء، وتضم الوزارات والجهات المعنية، لوضع خطط وإجراءات متكاملة، وبناء قواعد بيانات عن الوضع البيئي للحوضين قبل وبعد بناء السدود، ومتابعة آثار التصحر وتغير الطبوغرافيا.
3. تطوير أسلوب التفاوض مع دول المنابع ليشمل حماية التنوع الأحيائي والالتزامات البيئية الدولية، واللجوء إلى محكمة العدل الدولية اذا تطلب الامر استنادًا على فقرات قوانين المياه الدولية، التي تفرض الانتفاع المنصف، ومنع الضرر، والإخطار المسبق بالمشاريع على الأنهار الدولية. علما ان المحكمة سبق وان أصدرت قرارات لصالح القضايا المتعلقة بمنع تدمير التنوع الاحيائي في احواض الأنهار. فقد أشارت محكمة العدل الدولية واقتبست في حكمها في قضية( مشروع جابشيكوفو – ناجيماروس بين سلوفاكيا وهنغاريا [4]), لفقرات من اتفاقية هلسنكي لتنظيم الاستخدام غير الملاحي للأنهار الدولية المشتركة لعام 1997, كونها تدوين للقانون الدولي العرفي فيما يتعلق بثلاثة التزامات على الأقل تجسدها الاتفاقية، وهي على وجه التحديد: الانتفاع المنصف والمعقول للمياه في الأنهار الدولية المشتركة، والحيلولة دون حدوث ضرر ذي شأن، والإخطار المسبق بالتدابير المزمع اتخاذها قبل بناء المشاريع والسدود مثلا، علما ان حصول الضرر في حوضي النهرين في العراق جاء نتيجة عدم قيام دول المنابع بتبليغ العراق بمشاريع سدودها العملاقة لتنظيم تقارير الاثار البيئية لهذه المشاريع على جزء حوض النهر الدولي ضمن الأراضي العراقية الا بعد انشائها..
4. تحديد التدفق البيئي (Environmental Flow) المطلوب في جميع مجاري الأنهار داخل العراق والروافد لمنع الجفاف البيئي وادامة التنوع الاحيائي في حوضي النهرين، مع التزام دول المنابع بتوفيره.
5. إجراء دراسات إلزامية لتأثيرات السدود على البيئة قبل تنفيذ أي مشروع، كما هو معمول به عالميًا.
6. تنظيم استخدام المياه الجوفية عبر تحديد كميات وأوقات الضخ، وإغلاق الآبار غير المرخصة خاصة قرب الأنهار.
7. استغلال تقنيات تحلية المياه في بحيرات تجميع مياه المبازل (مثل بحيرة الدلمج) واستخدامها في الري وتغذية الأهوار، وتحلية المياه الجوفية المالحة في المناطق الصحراوية والنائية.
8. إشراك الجامعات ومراكز البحوث في بناء قواعد بيانات للتنوع الأحيائي وتوثيق التغييرات الناجمة عن سدود دول المنابع وتغير الخصائص الهيدرولوجية والجيومرفولوجية للأنهار داخل العراق، وطلب الدعم الدولي للحفاظ على الأنواع المائية والبرمائية المهددة بالانقراض.
مصادر المعلومات:
[1] Tigris River Pollution in Baghdad: Challenges and Recommendations
Save the Tigris and Iraqi Marshes Campaign February 2018.
[2] شذى العاملي 2024. هل ضحى العراق بحقوقه المائية مقابل استثمارات تركيا؟ الاندبندت، عربية.
[3] ميادة داود .2023. “85 ألف بئر.. هل يفقد العراق مياهه الجوفية”. موقع ارفع صوتك, 29 مارس ,2023.
[4] Duncan Brack, 2001. INTERNATIONAL ENVIRONMENTAL DISPUTES.
https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/public/Research/Energy,%20Environment%20and%20Development/envdisputes.pdf
د. سعاد ناجي العزاوي
أستاذ مشارك في الهندسة البيئية