عاجل
أهم الأخبارمقالات وآراء

الدكتور عبدالسلام المياحي يكتب.. المشكلة الثقافية

م / المشكلة الثقافية

أن أمر مراعاة المصالح الشخصية والاهتمام بها في أي نشاط جماعي – من خلال التنافس الشريف – يعتبر أمر طبيعي وحالة انسانية اعتيادية ، بل يعتبر ذلك التنافس قوة دافعة للإبداع والتطور ولكن أن يكون ذلك الدافع التنافسي الطبيعي بين الناس سمة اجتماعية ثقافية بدائية ، ان يكون ذلك طبيعة ثقافية سلبية ، فهذه مشكلة تحتاج الى اهتمام وبحث ، تحتاج الى حل جذري ، انها الطبيعة السلوكية الثقافية المعروفة بالأنانية، ان الانانية التي لا تتضمن التنافس الشريف والعادل تعتبر سلوكا اجتماعيا موروثا مدمرا، اذ هذه النزعة السلوكية السلبية -الانانية- تعتبر بمثابة خلل وعيب ثقافي و أخلاقي كبير يحتاج الى إصلاح جذري ، خلل سلوكي يبدأ في مرحلة الطفولة ويستمر معه فيأخذ مظاهر مختلفة ، لذا فالانانية ظاهرة ثقافية معيقة لأي عملية إصلاحية جذرية شمولية.

للاسف الشديد تعتبر الانانية سمة ظاهرة في مجتمعنا العراقي اليوم بالرغم من كل الصفات الطيبة التي يمتلكها الفرد العراقي من قبيل الكرم والنخوة والشجاعة ،من المنظور العلمي التحليلي للواقع السلوكي تعتبر الشخصية العراقية، شخصية ازدواجية و تحمل في جنباتها تناقض سلوكي كبير ، تناقض يحتاج الى معالجة تربوية في مرحلة الطفولة المبكرة وما يليها عند تصميم برامج البناء الوطني في مشروع بناء الانسان العراقي.

إن هذا الخلل الثقافي السلوكي السائد يحتاج منا إلى أكثر من وقفة، يحتاج الى بيان دقيق وفق منهجية علمية في معالجته. انها قضية ثقافية بامتياز .

ان أصل ذلك يعود لمشكلة ثقافية، قبل كل شيء و قد تستغربون عندما نخبركم ان مشكلتنا الثقافية هي أصل وسبب جميع مشاكلنا التي نعاني منها بدون استثناء، عند معرفة ذلك يمكن ان تحل كل المشاكل وبها ايضا تستدام فرص التطور والبناء ، فرص العطاء وإسعاد الناس.

ان معرفة هذا الأمر- موضوع المشكلة الثقافية – والاعتراف به لا يحصل إلا عندما نمتلك قدر كافي من الشعور في مسئولية التغيير ، المسئولية من أجل المساهمة في صنع قدر التغيير الإيجابي المنتظر الذي يبدأ ويستمر بالإنسان نفسه.
الموضوع الذي نتحدث عنه موضوع شيق ويجرنا الى مواضيع مهمة مرتبطة ببعضها. وهذا الموضوع الذي نتحدث عنه ما هو الا اشبه بمقدمة او خاطرة في طريقنا لبيان مشروع البناء الوطني الفعلي الذي يلامس جوهر الاساس لهذا المشروع الكبير والذي يتعلق بالإنسان نفسه.

نعم الموضوع الذي نتحدث عنه يتعلق بظاهرة السلوك الأناني المستشري بيننا، لكن هو في الواقع يمكن أن نعتبره مقدمة للولوج في تحليل الطبيعية الثقافية السائدة وكيفية عرضها بغية تصميم موديلات الحلول المقترحة وفق منهجية علمية لا تخطئ ابدا.

للاسف الشديد مثلا نجد اليوم ان الانانية هي السمة السائدة في علاقات الناس عند التفاعل التنافسي بينهم على الفرص المشروعة ، هذا ما نستشعره ونحن ندرس ونحلل سلوك أبناء المجتمع العراقي في ظل كل ما جري ويجري من تقهقر وانتكاسات وخيبات الأمل المتلاحقة منذ عقود من التراجع الثقافي المؤكد والذي اشتدت وطأته خلال العقد الأخير.

إن ظاهرة الأنانية تعتبر سلوكا فرديا وجزءا من مرض او ظاهرة اجتماعية سائدة تنتقل عدواها وهي بدون شك سلوك متوارث بين الأجيال .
انها بدون شك تشيع و تستشري في المجتمعات ذات الطبيعة البدائية، سلوك اجتماعي يقل وينحسر كلما تطور المجتمع وارتقى مستوى ادراك الانسان فيه .
ويعود سبب هذا المرض إلى سبب أو أصل اساسي واحد ، وسبب ذلك يعود إلى طبيعة المشكلة الثقافية التي يتلقاها الإنسان ويتربى عليها ،إذن إن الأنانية ليست أكثر من مظهر أو عرض من أعراض تلك المشكلة الأساسية ،المشكلة الثقافية التي هي أم المشاكل كلها والسبب وراءها ، وهي سبب ما جرى كل ما يجري في كل المجتمعات الانسانية على مر العصور.

الامر الاهم الذي يجب الوقوف عليه هو أن الإنسان نفسه- أي إنسان كان – يفكر حسب طبيعة الثقافة التي تربى فيها ، يفكر ومن دون شك وفقا لمورثه الثقافي الذي نشأ وترعرع فيه.
ببساطة فأنا عندما أدعي أني افضل منك، ادعي ذلك لأني تربيت على هذه الفكرة الخاطئة ، انا افضل من غيري ، وغيري يظن انه افضل مني ، السبب يعود لاني وغيري كلانا نشأ وتربى في ثقافة واحدة ولديه نفس هذا النمط من التفكير البدائي الاناني.
اليوم تلاحظ الغالبية لديها شعور اناني ، شعور لا يكن للوطنية بصلة ، شعور معادي للوطنية ، عندما يظن ان نسبه وحسبه خير من حسب ونسب غيره ، للأسف تجد الغالبية تتشبث وترجع الى جملة من المفاضلات الوهمية غير الصحيحة ، أنها مجرد ادعاءات وممارسات خاطئة ، في الواقع ان تلك الانانية تهدد أي بناء وطنيا صحيح.
الأنانية هدمت وتهدم الدولة بدون شك. الأنانية والوطنية لا يجتمعان أبدا. ان مظاهر وممارسات الأنانية موجودة عندما اليوم وبكل أشكالها، تراها وهي تتناقض مع الثوابت الانسانية والاخلاقية المعروفة والتي لا يختلف عليها الناس، ترى ذلك التناقض ولا أحد يستنكر ، أننا ابناء ثقافة لا ترى في التناقض ضير او عيب وهذه ايضا مشكلة اخرى سببها واصلها ثقافي، يمكن التركيز عليها كظاهرة ثقافية سلبية في مناسبة قادمة إن شاء الله .

إن مجتمعنا العراقي اليوم يعج بالكثير من مفردات السلوك الأناني والتفاخر والتنافس في ممارسة الفساد نفسه ، وهذا السلوك في الفساد نفسه لا تنم أو تنبأ إلا عن طبيعة الناس الانانية التي تربى عليها الناس ، أنها في الواقع مصداق عملي لمشكلتهم الثقافية الاساسية ، انها مشكلتهم مشكلة غيرهم من المجتمعات بدون اي شك ، الواقع أن أثر هذه المشكلة مع استشراء الفساد في العراق اصبح اكبر واخطر بكثير من غيره، خاصة في ظل استفحال المشاكل وتشابكها وتعقدها وغياب الأمل في إيجاد حل جذري شامل لها. وهذا ما يهمنا في هذا الجانب المهم من ادارة التغيير الذي نخطط له ونعمل عليه جاهدين.

عندما تتعالى القيم الإنسانية المتمثلة بمنظومة الأخلاق والقيم العلا في المجتمع- أي مجتمع كان – وعندما تترسخ تلك القيم الأخلاقية في المجتمع- أي مجتمع كان – تتعالى فيه مقومات مثالية لرؤية وطنية ، رؤية مستدامة ترتقي بمستويات عند الإدراك الى اعلى المراتب، مستويات عاصمة من الزلل والانحراف ، مستويات جديدة تمد المجتمع لقيم اخلاقية فريدة يمكن ان تنافس ارقى المجتمعات تطورا، يستمر التطور والبناء والعطاء الانساني و يستدام، كل ذلك لأنه منسجم مع قوانين الطبيعة التي هي قوانين الله ، لأنه منسجم مع قانون التطور الطبيعي عندها وكنتيجة طبيعية تضعف الأنانية وتخف آثارها السلبية بل وتضمحل اذ تتحول الى قوة دافعة من اجل ادامة زخم التطور من خلال التنافس الشريف بين الناس وفق إطار قيم العدالة ، وقد يختفي هذا العرض المرضي الثقافي في المجتمع كغيره من الامراض الاخرى مثل التناقض ، والعكس صحيح تماما فعندما تتفاقم الأمراض الثقافية أو الاجتماعية فمن الطبيعي وكنتيجة لذلك يضعف الحس الوطني ، ينهار المجتمع عندما يتجه إلى التقهقر والتخلف والانهيار بل وحتى التهديد بخطر الزوال وبشكل كامل، هذه سنة الله سنة الطبيعة فيما خلق الله.

وطالما نحن نتحدث عن الانانية فنحن أنانيون بطبيعة الحال وهذه مشكلة ثقافية متأصلة فينا ، الواقع أننا أبناء شرعيون لثقافة بدائية تربي أبناءها على الأنانية، تربوا على التناقض أيضا ، تربوا على معاداة العلم ، تربوا على الكثير من السلوكيات الغير صحيحة ، نحن في الواقع أبناء ثقافة فضلت النقل على العقل وهذه مصيبة اخرى يمكن مناقشتها في ورشة عمل مستقلة . ثقافة قدست وتقدس المورث ، قدسته بغثه وسمينه من دون تمييز ، فمن الطبيعي إذن أن تجد كل هذه المظاهر الثقافية المرتبطة بسلوك الفرد الانانية، الانتقامية الشرسة والتي تجدها بكل صورها ومظاهرها عند ممارسة الفساد بكل أنواعه ودرجاته .
ومن الطبيعي أن تجد ذلك في مجتمع يمجد ويشيد بالدكتاتورية ولا يزال يدفع ثمن ذلك ، يعرف الحق ولا يتبع أهله ، نجده اليوم يمجد حالة دكتاتورية مظلمة ولا يرى في تلك في الجرائم اي ضير ،ما لكم كيف تحكمون ، لا يرى ذلك التناقض ، ولا يعير أي اهتمام لفكرة العدالة وكيفية تطبيق قيم العدالة . لا يرى ذلك لأنه لا يعرفه ، نقول مرة اخرى انها المشكلة الثقافية التي تربينا عليها.

فمن باب الشعور بالمسئولية علينا قول الحقيقة ونحن نتحدث عن الأنانية وغيرها من أمراضنا الثقافية ، فبالرغم من كل الصفات الطيبة التي يمتاز بها المجتمع العراقي والتي يشهد بها كل العالم ، بالرغم من ذلك كله نجد كيف أن سلوك الفرد العراقي اصبح اليوم يتسم بالأنانية للأسف ، تلك الأنانية التي تجلت بمظاهر مختلفة والتي يمكن ملاحظتها وفق كل درجات التصنيف والتوصيف وخاصة في بشاعتها عند ممارسة الفساد والعدوان على الغير وتبرير ذلك.

من مظاهر الانانية عندما تفشل في العمل الجماعي ، انها الانانية عندما تبحث عن ألقاب علمية او ايمانية مزيفة لخداع الآخرين ، إنها الأنانية عندما تاخذ فرصة غيرك ولا ترى في ذلك ضير او عيب ، انها الانانية عندما لا تراعي مصالح الغير ومشاعرهم ولا تهتم إلا بما تظنه يفيدك ، إنها الانانية عندما لا تسعى عمليا وتضحي من أجل تطبيق “قيم العدالة”.
انها الانانية عندما تحكم على الاخرين من خلال المعتقد أو العرق او الجنس . الواقع ان مظاهر الانانية كثيرة ومتنوعة. انها الانانية عندما لا ترى إلا نفسك ولا تسمع إلا صوتك.

يفكر الإنسان عادة وفقا لطبيعة الثقافة التي يتربى عليها، فعادة ما تعيد المجتمعات إنتاج نفسها وهذا هو الأصل، تعيد ما تنتجه من سلبيات او ايجابيات ، والأصل أن يقاوم الناس أي تغيير يحصل ، ولكن التغير حاصل لا محالة . أن مقاومة التغيير أمر مشترك لدى جميع الناس ، ولا تخف تلك المقاومة إلا عندما يرتقي مستوى إدراك الناس ، فمن الطبيعي نجد أن أبناء الثقافات البدائية يقاتلون دفاعا عن موروثاتهم الثقافية ، من الطبيعي تجدهم يعادون العلم ويميلون الى الخرافة والوهم على حساب العقل والعلم وما يقوم عليه دليل.

على العكس من ذلك تجد اليوم نماذج انسانية قمة في التحضر والتطور ، تجدها في الشرق والغرب ، مجتمعات تهيء نفسها لقبول أي تغيير محتمل، نجدها تبحث عن التغيير طالما كان ذلك منسجما مع التطور الطبيعي ، وطالما كان ذلك ملبيا ومحققا لفرص السعادة لأبناءه وبما يضمن مقومات ديمومة ذلك المجتمع وعطائه الانساني المميز . من الطبيعي أن تجد كل ذلك متحصلا بالعلم، أي بما يقوم على صحته دليل وهذا هو السر في كل خيار او بناء صحيح. نحن أبناء امة لا تعرف قيمة الدليل ، لا تعرف أهمية العلم في صناعة الأمل والحياة.

والملاحظ أنه عندما يسعى الناس الى تطبيق نظم تربوية جديدة في مجتمع ما وهم في الواقع يسعون لفرض نظم ثقافية جديدة من أجل تحقيق فرص التغيير الحتمي في ذلك المجتمع وعن طريق العلم طبعا ولا وسيلة غير العلم، والنتيجة من ذلك مؤكدة بل حتمية ، النتيجة الأهم هو تغير حتمي في طريقة تفكير الإنسان نفسه ، فعندما تتغير التربية بشكل موجه ومدروس تتغير طريقة تفكير الانسان بشكل أفضل ، هذه نتيجة طبيعية ومتلازمة منطقية، عندها وبشكل تدريجي يحصل تطور ثقافي حتمي يرتفع فيه مستوى إدراك الناس في ذلك المجتمع، بشكل طبيعي تتحقق فرص الاستدامة في التطور الطبيعي ، التطور الإيجابي، التطور العلمي الذي يشمل كل مفاصل الحياة ، وهكذا تتغير المجتمعات بشكل إيجابي تصاعدي ، وهي إذن تتغير لا محالة عندما تتغير أنظمة التربية فيها ، وهذا هو التغيير العلمي الموجه الذي يمكن فيه ومن خلاله اعادة بناء الانسان نفسه. هذا أساس مشروعنا الوطني في اعادة بناء العراق ، هذا ما نراهن عليه.

هذه ليست تمنيات أو تشدقات أدبية او ثقافية بل هي حقائق علمية مثبتة تعتبر أساسا لمنهجية صناعة التغيير الذي لا بد من العمل عليه عند قيادة المشروع الوطني العراقي في المرحلة القادمة بإذن الله .

المحزن أن مؤشرات التغيير الثقافي التي حصلت في العراق كانت ايجابية في مطلع القرن الماضي واستمرت لعقود، حصلت فيها نهضة ثقافية وعلمية عظيمة، بعدها حصلت تقلبات ونكسات سياسية كبيرة أدت في النهاية إلى تدهور ثقافي سلبي لا مثيل له في العالم.

هذا هو الواقع الذي نعيشه ونشعر به اليوم و نسعى لتغييره، نضحي من أجله ، إنه التحدي الكبير الذي يواجهنا اليوم كعراقيين ، التحدي المتعلق بكيفية عكس هذه العملية الثقافية ، اي كيفية عكس منحى التغيير وتحويله من سلبي إلى إيجابي ، من انحدار واندحار الى صعود وحياة ، عندها يمكن إنتاج حالة ثقافية عراقية جديدة تصلح لتكون نموذج إنساني فريد ، وهذا ليس ببعيد.
هذا موضوع مركزي سنتناول تفاصيله وفق منهجية علمية ومن خلال منشوراتناز و ورش العمل التي سنقوم بها في هذا التجمع الوطني المبارك بإذن الله،
انه “مضيف العراق الكبير” الذي يفتح أبوابه لكل طرح وطني علمي يعالج المشكلة.

ان الذي نخطط له اليوم هو لجعل هذه النافذة الوطنية نافذة للتعبير عن الرؤى الصادقة ، الرؤي التي تتبنى المنهج العلمي في كيفية البحث عن حلول واقعية صحيحة من اجل تبني أفضل الخيارات الوطنية والسياسية من اجل إعادة بناء العراق الجديد، كل ذلك من خلال مشروع وطني سياسي متكامل يبدأ من الآن ومن هذا التجمع ليضم الجميع ولا يهمل أحدًا.

في الختام نرحب بكل طرح وطني واقعي مبني على منهجية علمية، ونرى في نفس الوقت ان “مضيف العراق الكبير” هو حاضنة أمل وطنية لكل ما يتعلق في مشروع بناء الدولة الجديدة، الدولة النموذج الناجح الذي يخدم مصالح الشعب العراقي بكل مكوناته ولا يستثني أحدا. الدعوة مفتوحة للجميع في التفاعل والعطاء من أجل الإنسان والوطن في عراق السلام والأمل.

الدكتور عبدالسلام المياحي
إدارة التغيير ونظم الاستدامة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى