“ملائكة الرحمة “.. بقلم نزار فوزي
حدث قبل ايام اذ كنت برفقة صديق عزيز وزوجته، له معزة وتقدير خاص وكنت في توديعه في مطار هيثرو في طريقه بزيارة الى بغداد، ونحن نقف بدورنا مع المسافرين على طيران القطرية، زحام كثير على منفذ تسليم الحقائب واستلام تذاكر الصعود الى الطائرة بسبب الاجراءات والمتطلبات الكثيرة من اوراق فحص الكورونا واستمارات اخرى للمسافرين الترانزيت ما يجعل العملية بطيئة.
ونحن في الانتظار الممل فجئة شعرت بدوار وألم في صدري يزحف الى كتفي والذراع الايسر، ولخبرتي التي اكتسبتها من قبل بالاصابة بذبحة قلبية والدواء الذي احمله في جيبي دائماً للطواريء لهكذا حالة وهو بخاخ يؤخذ تحت اللسان لتوسيع الشرايين، أخذت منه وانا أعلم ان له تأثير خفض ضغط الدم وهذا ما حصل ولكن رافق ذلك ارتفاع مضطرد بضربات القلب مع صداع مفاجيء وشديد جداً، كان بادياً على وجهي ان هناك شيئاً غير صحيح فبادر احد الركاب بسؤالي أن كنت على ما يرام، أجبته اني اشعر بدوار بسيط ليس إلا،
جلست على عربة الحقائب لتفادي السقوط مع محاولتي لطمأنة صديقي ان لاشيء جدي يتطلب القلق، يبدو ان المسافر الذي سألني أولاً فهم أني احاول اخفاء حقيقة ما يحدث فابلغ عن حالتي موظفة المطار المسؤولة عن تنظيم دخول المسافرين لمنافذ تسليم الحقائب، جاءت مسرعة وسألتني ما اذا كنت بخير او احتاج لمساعدة ولم يتغير جوابي فأشارت عليا بالجلوس على احد المقاعد القريبة وهذا ما فعلت، أستمر صديقي بمراقبتي وهو ملتزم بدوره بين المسافرين وكلما نظر الي افهمه بالاشارة بأني على ما يرام ولكن الحقيقة ان تسارع ضربات قلبي بدأ يقلقني بجدية وخاصة أن لديا معلومات ان تسارع الضربات قد تؤدي الى توقف القلب، نهضت وابلغت صديقي اني ذاهب عنهم وتمنيت له رحلة سعيدة.
وبعد ان ابتعدت بمسافة جيدة ذهبت الى عنصرين من أمن المطار وأبلغتهم أني أشعر بحاجتي الى رعاية طبية طارئة، أشارا عليا بالجلوس على احد المقاعد وفوراً طلبا العون بأجهزة الاتصال وجاء بجهاز بحجم بطارية السيارة وضعه بجانبي وقال لي ( لا تخاف أذا ذهبت نحن نعيدك ) يقصد اذا توقف قلبي فهذا الجهاز لصعق القلب بالكهرباء لاعادته للنبض، وانا حقيقة قبل قوله هذا بدأت اشعر أني في لحظاتي الاخيرة.
هنا تدخلت عناية الله أذ بعد دقائق قلية جداً كان هناك فريق طبي يحمل مريض على السدية المتحركة وهو طيار في أحدى الطائرات كان قد تعثر بسجادة داخل الطائرة ما تسبب له بكسر في منطقة الحوض، هذه العناية الالهية في تسلسل الاحداث لتقديرات يعلمها الله وحده فكان تواجد الفريق الطبي يسمى صدفة وانا أسميه عناية الله، اقتربت مني المسعفة وسألتني أذا كان يمكنها عمل تخطيط للقلب بجهاز تحمله معها وبرغم أن عنصري الامن وضعا حاجزاً يعزلاني عن الناس مراعات للخصوصية وبوجه التحديد هذه اللحظة من حياة الانسان وفهمت انهم لا يرغبون للناس الموجودة في المطار بالنظر الى مشهد وفاة شخص أمامهم ، طلبت منها لا احبذ البدء في الاسعاف بهذا المكان، أخذتني الى ممر خاص بموظفي المطار بعيداً عن مرئى الناس وربطت جهاز تخطيط القلب فوجدت أن ضربات القلب بلغت ١٧٠ ضربة في الدقيقة وانخفض ضغط الدم العالي الى ٨ والواطئ الى ٦ ،
بدأت تطمئنني بأن عربة الاسعاف ستصل خلال دقائق، تحدثت الي وهي حقيقة ملاك من ملائكة الرحمة، حدثتني انها لم تتناول فطورها بعد والساعة تجاوزت الثانية عشر ظهراً، كان الممر الذي اخذتني اليه بجانب أحدى الكافيتريا وتعبيراً مني على العرفان اقترحت عليها بالذهاب وشراء بعض من الطعام وانا ادفع عنها ذلك وهو لا يبعد عنا اكثر من عشر خطوات، رفضت ذلك مع ابتسامة الملائكة على محياها لا لشيء سوى أنها لا تود تركي بمفردي ولو لدقيقة واحدة لخطورة حالتي،
أنظمت لها زميلتها ملاك آخر وأبلغتها عن العرض الذي قدمته لها بأن ادفع عنها لشراء وجبة طعام وبدى عليهما السعادة لمجرد ان نيتي بذلك اظهار الشكر والممنونية عما يقدمانه من عمل، في لحظات متتالية خالجتني منذ ان وضعت الستارة لتحجبني عن الناس أنها لحظاتي الاخيرة مر على ذاكرتي كل الناس الذين ظلمتهم في يوم من الايام، أن كنت ظلمتهم بفعل او كلمة وان كانت صغيرة، صغرت أمام عيني الحياة وشعرت بتفاهتها وشعرت بثقل الظلم الذي أوقعته على احد من الناس في حياتي وشعرت بثقلها والغريب اني لم اتذكر أحداً ممن ظلمني، سبحان الله شعرت أني أرغب في طلب السماح ممن ظلمتهم فقط.
في هذه اللحظات والتي سبقتها عندما قال عنصر الأمن لا تخاف فنحن سنعيدك أذا حدث مكروه وهو يحمل جهاز الصعق الكهربائي حدثت نفسي أن الحياة والموت بيد الله وهو وحده الذي يقرر ذهابي من عدمه
وبعد ان جائت المسعفة حدثت نفسي أن هذه من الانس وهي كملاك الرحمة فكيف سيكونون ملائكة الرحمة الحقيقين وكيف ستكون رحمه الله وهذا ظني به ، لحظات من الحياة تشعر فيها بطمأنينة ليقينك من رحمة الله لا يعكره غير صور واسماء الناس الذين ظلمتهم وان كانت افعال واقوال صغيرة جداً كنت قد نسيتها او تناسيتها ، الحمد لله الذي قدر ورتب الامر فجائت ملائكة الرحمة بتوقيت مناسب لتقديم العون والاسعاف المناسب وايصالي الى المستشفى واتخاذ ما يلزم ، سبحان الله مسبب الاسباب ليبلغ أمره، كتبت هذه الكلمات لعل العبرة منها تصل لمن يقرئها بأن التسامح فيه راحة لكم وتصالح مع النفس والامتناع عن الظلم هو السبيل لهذه الطمأنينة والراحة التي نبحث عنها طيلة حياتنا .