خلف كل بيت مضاء، صوت طفل نائم بطمأنينة، وضوء مطبخ يُعد فطور الصباح، وخطوات أم تطفئ المصباح الأخير… هناك مقاتل لا يظهر في الصور ، لا يحمل سيفاً ولا يضع خوذة، لكن كل ما حوله من استقرار معلّق على كتفيه ، لا أحد يعرفه، وربما لا يعترف به أحد، لكنه هناك… يقاتل بصمت.
المجتمع يُشيد بالاستقرار، يبارك للعائلات، يحتفي بالنجاحات، ويدوّن قصص (النجاة) لكنه قلّما يلتفت إلى من كان يحارب في الظلال كي لا ينهار كل شيء ، ليس بالضرورة أن يكون رجلاً ، ليس بالضرورة أن يكون مقاتلاً عسكرياً ، ربما يكون شخصاً يُكابر على آلامه، أو يكتم احتراقه كي لا يشعل البيت، أو يتحمل فوق طاقته كي تستمر الحياة في الواجهة كأن شيئاً لم يكن.
الاستقرار أكذوبة حين لا نعرف من يدفع ثمنه ، لأنه حين يُغلف بالهدوء، تُنسى الحرب التي تضمنه ، وحين يصبح عادة، يصبح كأنما مجاني… مع أنه ليس كذلك. الثبات العائلي لا يحدث تلقائياً.
هناك من يُنهك كل يوم كي لا تنهار اللحظة وهناك من يقطع شرايينه حتى لا تتلوث المياه الصافية التي يشرب منها الآخرون وهناك من يحرس الحلم، لا لأنه يتمتع به، بل لأنه لا يريد للآخرين أن يروه وهو يُذبح.
نقول دائما : كم هذه العائلة متماسكة ، لكن لا أحد يسأل كم شهقة مكتومة، وكم تضحية مجهولة، وكم مرة ابتلع أحدهم الحقيقة كي لا ينكسر الطفل، وكم مرة خُذل لكنه استمر، فقط لأنه لم يُخلق ليستسلم ، المقاتل الذي نحكي عنه لا يريد تمثالاً، ولا وساماً، ولا حتى كلمة شكر وكل ما يريده ألا يُنسى ، ألا يتحول إلى ظل في خلفية لوحة استقرار مزيفة.
من المفارقة أن الذين يحاربون في صمت، هم أول من تُنسى حكاياتهم…!
لأنهم لا يصرخون، لا يطالبون، لا يطلبون جمهوراً ، يقاتلون، ويخسرون، ويُخذلون، ثم يُكملون وكأن كل شيء طبيعي ، لكن لا شيء طبيعي في أن تبني بيتاً في قلب العاصفة، وتحجب الريح بجسدك، وتُقنع الجميع أن الجو صافٍ.
النجاة اليومية عملٌ عنيف. لكنها عنف داخلي لا يُرى ، أشبه بانهيار جبل صامت ، كل مقاتل خفي، هو شخص أكل الحريق قلبه لكنه لم يدع الدخان يتسلل إلى البيت ، وكل استقرار، هو خريطة معارك لم تُنشر ، وكل تماسك، هو وهم بصري صنعه شخص تَمزق كي لا يرى الآخرون التمزق ، ووسط هذا كله، لا تزال المجتمعات تتعامل مع الهدوء كأنه وضع افتراضي، مع أنه نتيجة، لا بداية.
كل مرة ترى فيها طفلاً يضحك بأمان، هناك مقاتل يطوي قلبه كي لا يُسمع وجعه ، كل مرة تنجح فيها علاقة، هناك روحٌ استُنزفت لتبقى الأخرى صالحة ،وكل عائلة (مثالية) فيها ركن مكسور تم تجميله بألم. الاستقرار هو شكل آخر من الحروب، لكن بلا رايات، ولا عدو معلن، ولا معركة واضحة.
ولأن هذه الحرب لا تُرى، فهي أكثر قسوة. لأنك تقاتل فيها من تحب، لأجل من تحب، ضد ما لا يُسمّى. وحين تُهزم، لا أحد يراك تسقط. وحين تنتصر، يُنسب النصر إلى الهدوء، لا إليك. تظل المجهول الذي لا تُكتب عنه الأغاني، ولا يُذكر في الحفلات، ولا يُمنح إجازة.
لكنك تعرف. تعرف أنك كنت هناك. وأنك قاتلت. وأنك اخترت أن تُبقي الجميع دافئين، حتى لو تجمدت أنت. وأنك لم تكن بطلاً، بل كنت الجدار الذي لا يراه أحد، لكنه ما منع البيت من السقوط. وهذا يكفي. يكفي أن تكون الحقيقة التي لم تُكتب، لكنها كانت السبب في بقاء الصفحة بيضاء.
في زمن يُقاس فيه النجاح بالصور، والمجد بالمتابعين، والبطولة بالتصفيق، تظل أنت خارج كل ذلك. لكنك لست خارج المعنى. لأنك المعنى. لأنك، ببساطة، المقاتل الذي لا يراه أحد.
شخصيا اقولها بثقة في بيتنا بطل هي زوجتي وحبيبتي ورفيقة دربي ام عمر