ناطحات سحاب شاهقة، أحياء سكنية مترامية، مراكز تسوق فاخرة، وحتى نسخ مقلدة من مدن أوروبية كلاسيكية… لكن دون أي أثر للحياة. هذه ليست مشاهد من فيلم خيال علمي، بل واقعٌ قائم في عدة مناطق بالصين، حيث تنتشر ما يُعرف بـ”مدن الأشباح”، وهي مشروعات عمرانية ضخمة شُيّدت بتكاليف هائلة لكنّها تفتقر للسكان.
ظاهرة مدن الأشباح: بنية تحتية بلا بشر
تُقدّر قيمة الاستثمارات في هذه المدن بما يزيد عن 170 مليار دولار، غير أن أغلبها ظلّ خاليًا من السكان رغم مرور سنوات على اكتمال بنائها. وتُعَدّ هذه الظاهرة نتيجة مباشرة لسياسات النمو الاقتصادي السريع، التي اعتمدت على الطفرة العقارية دون دراسة حقيقية لاحتياجات السوق أو القدرة الشرائية للسكان.
مدن مقلّدة… ولكن فارغة!
من أبرز الأمثلة على مدن الأشباح في الصين:
مدينة التايمز” – لندن المصغّرة التي سكنها الصمت
في ضواحي مدينة هانغتشو بمقاطعة تشجيانغ، تقف نسخة مدهشة من العاصمة البريطانية لندن، تُعرف باسم “مدينة التايمز” (Thames Town)، وقد تم بناؤها كجزء من خطة حكومية لإعادة تصميم الضواحي على الطراز الأوروبي. تضم المدينة شوارع مرصوفة بالحجارة، ومنازل بواجهات إنجليزية كلاسيكية، ونسخة مقلدة من برج الساعة “بيغ بن”، وحتى تماثيل لجنود بريطانيين يرتدون الزي التقليدي.
ورغم التصميم المعماري المبهر والاستثمارات الكبيرة، تحوّلت “لندن الصينية” إلى واحدة من أشهر مدن الأشباح في البلاد. فقد تم شراء أغلب العقارات فيها كمساكن ثانية أو أصول استثمارية، دون أن يتم إشغالها فعليًا. ما جعل المدينة أشبه بديكور سينمائي فاخر بلا جمهور.
المدينة اليوم تحظى بشعبية في أوساط المصورين والمقبلين على الزواج، الذين يتوافدون لالتقاط الصور وسط المناظر الأوروبية، لكنها تفتقر لأي حياة مجتمعية حقيقية. لا أسواق مكتظة، ولا مدارس نشطة، ولا حركة مرورية تذكر.
وتُعد “مدينة التايمز” نموذجًا صارخًا لتغليب الجمالية المعمارية على الجدوى الوظيفية، حيث لا يكفي التقليد لجذب السكان دون توافر فرص عمل وخدمات حيوية.
تياندو تشنغ (Tianducheng): نسخة شبه كاملة من العاصمة الفرنسية باريس، تضم برجًا مقلدًا من برج إيفل وحدائق تشبه حدائق فرساي، لكنها تفتقر للسكان بشكل لافت.
أوردوس (Ordos) – منطقة كانجباشي: مشروع حضري ضخم في منغوليا الداخلية، صُمم ليضم أكثر من مليون نسمة، إلا أن عدد سكانه لم يتجاوز 10% من الطاقة الاستيعابية، ما جعله يُلقّب بـ”أغلى مدينة مهجورة في العالم”.
ثيم بارك في هويانغ (Huayang): مدينة على الطراز الأوروبي تضم مبانٍ شبيهة بتلك الموجودة في سويسرا والنمسا، لكنها تحوّلت إلى مقصد لليوتيوبرز والمصورين بدلًا من السكان.
“تياندوشينغ” – باريس الشرق الخالية من العشاق
في ضواحي مدينة هانغتشو شرقي الصين، تقع مدينة تياندوشينغ (Tianducheng)، المعروفة إعلاميًا بـ”باريس الشرق”، وهي مشروع معماري ضخم صُمم ليكون نسخة مصغرة من العاصمة الفرنسية باريس، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. المدينة تضم نسخة مقلدة من برج إيفل بارتفاع 108 أمتار، وشوارع فسيحة مستوحاة من الشانزليزيه، وميادين وحدائق كلاسيكية تعكس الذوق الأوروبي الرفيع.
تم إنشاء هذه المدينة في عام 2007، وكان يُفترض أن تستوعب أكثر من 10 آلاف نسمة، ضمن خطة لتحويل المنطقة إلى مجمّع سكني فاخر يلبي تطلعات الطبقة الثرية. لكن الواقع جاء مغايرًا تمامًا، إذ بقيت معظم المباني السكنية والمحال التجارية خاوية، وتحولت المدينة إلى مجرد خلفية رائعة لجلسات التصوير وأفلام اليوتيوب.
وبينما بدأت بعض العائلات في الانتقال تدريجيًا إلى المدينة خلال السنوات الأخيرة، لا تزال تياندوشينغ تُصنف ضمن أشهر مدن الأشباح في الصين، حيث تفوق الطموح العمراني قدرة السوق الفعلية على الامتلاء بالحياة.
تشنغقونغ – مدينة الطلبة التي خذلها الوقت
تشنغقونغ (Chenggong)، الواقعة بالقرب من مدينة كونمينغ في مقاطعة يوننان جنوب غرب الصين، كانت تُخطط لتكون مركزًا حضريًا جديدًا نابضًا بالحياة. أُطلق عليها اسم “مدينة الطلبة” نظرًا لتصميمها لاستيعاب مئات الآلاف من الطلبة والموظفين والعمال الشباب، مع جامعات حديثة ومبانٍ سكنية ضخمة ومرافق خدمية متكاملة.
ورغم أن المشروع كان يحمل طموحات كبيرة ليصبح امتدادًا حضريًا لكونمينغ، إلا أن المدينة واجهت مصيرًا مشابهًا لغيرها من مدن الأشباح. عشرات الأبراج السكنية والمجمعات الجامعية اكتملت، لكن الشوارع ظلت شبه خالية، والبنية التحتية تُظهر مدينة كاملة بلا حياة.
السبب؟ ببساطة، لم يأتِ أحد. فغياب فرص العمل، وصعوبة الوصول، وارتفاع أسعار الوحدات السكنية مقارنةً بمتوسط الدخل المحلي، جعل المدينة مهجورة لفترة طويلة، رغم الجهود الحكومية لإحيائها.
وخلال السنوات الأخيرة، بدأت بعض الكليات تنتقل إليها تدريجيًا، لكن لا تزال المدينة تُعاني من معدلات إشغال منخفضة، وتُعد نموذجًا صارخًا لمشكلة التخطيط الحضري الاستباقي الذي لا يرتبط بالطلب الفعلي أو البنية الاقتصادية المحيطة.
يوجيابو” – مانهاتن الصين التي لم تنبض بالحياة
في قلب مدينة تيانجين الساحلية شمالي الصين، تقف منطقة يوجيابو (Yujiapu Financial District) كمشروع طموح كان يُراد له أن يكون مانهاتن الصينية. تم تخطيطها لتكون مركزًا ماليًا عالميًا ينافس الحي المالي الشهير في نيويورك، مع ناطحات سحاب لامعة، وهندسة معمارية حديثة، ومحطات قطار تحت الأرض فائقة الحداثة.
لكن الحلم سرعان ما انقلب إلى خيبة أمل باهظة الثمن. فعلى الرغم من أن المدينة بُنيت بسرعة مذهلة وبتكلفة تجاوزت 30 مليار دولار، إلا أن نسبة الإشغال فيها بقيت شبه معدومة. الشوارع نظيفة لكن مهجورة، والمباني مكتملة لكن بلا موظفين، والمحلات التجارية مغلقة أو غير مشغولة.
السبب الرئيسي وراء فشل “مانهاتن الصين” يكمن في غياب الطلب الحقيقي على هذا الكم الهائل من العقارات والمكاتب، بالإضافة إلى عزوف الشركات والمؤسسات الكبرى عن الانتقال إليها، إما بسبب الموقع الجغرافي البعيد عن المراكز المالية الفعلية، أو بسبب ارتفاع التكاليف التشغيلية دون مقابل اقتصادي واضح.
اليوم، أصبحت يوجيابو رمزًا لفقاعة العقارات في الصين، ومثالًا على التخطيط الطموح غير المدروس الذي سبق احتياجات السوق وتجاوز حدود الواقع الاقتصادي.
الأسباب: اقتصاد متسارع وخطط غير واقعية
ترجع أسباب ظهور مدن الأشباح في الصين إلى مزيج من:
المضاربة العقارية: حيث اشترى المستثمرون العقارات كمجرد أصول مالية دون نية للسكن أو التأجير.
تخطيط حكومي مفرط: إذ تم إنشاء مشروعات سكنية في مناطق نائية دون مراعاة لوجود فرص عمل أو بنية اقتصادية داعمة.
نمط استثمار استباقي: اعتمد على فكرة أن “البناء سيجلب السكان لاحقًا”، وهو ما لم يتحقق في معظم الحالات.
هل تتحول مدن الأشباح إلى مدن حقيقية؟
رغم الصورة القاتمة، تسعى بعض الحكومات المحلية الصينية لتحويل هذه المدن إلى مراكز جذب عبر تقديم تسهيلات مالية، وتشجيع الشركات والمؤسسات التعليمية على الانتقال إليها. كما بدأت حملات تسويق داخلية وخارجية للترويج لها كمدن مستقبلية.
ظاهرة تثير تساؤلات اقتصادية
ظاهرة مدن الأشباح في الصين تفتح نقاشًا واسعًا حول سياسات النمو العمراني السريع دون تنمية بشرية موازية، وتثير تساؤلات حول مستقبل هذه المشاريع، خاصة في ظل تباطؤ الاقتصاد الصيني وارتفاع نسب البطالة بين الشباب.